البديل المقترح: نظام "جماعة المسلمين"
كنا توقفنا، في الحلقة الأولى من المقالة، عند رأي الإمام في سقوط الخلافة العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، وما نتج عنها من أحداث في البلاد التركية.. وقد بدا لنا أن الإمام قد هداه تأمله في أوضاع المسلمين، إلى الاعتقاد بأن الخلافة ليست السبيل الأمثل لإصلاح حال المسلمين، وأنها لم تعد تستطيع أن تقوم، في المراحل المتأخرة من وجودها، بواحد من أهم واجباتها، وهو قيادة المقاومة ضد المحتل الأجنبي الذي احتل ديار الإسلام، الواحدة بعد الأخرى. وهذا ما تشير إليه عبارته التي أثبتناها في الجزء الأول من المقالة، والتي تلخص رأيه في أنّ ما وقع لِما تبقـّى من أطلال "الخلافة الإسلامية" لا يعدو كونـَه تغييرا للحكم في الدولة التركية، وأنه، في النهاية، لا يغير شيئا من واقع المسلمين.
والعبارة المشار إليها من قول الإمام هي قوله: " فـَيوْمَ ألـْغـَى الأتـراكُ الخلافة الإسلامية ــ ولسنا نبرر كل أعمالهم ــ لم يُـلغـُوا الخلافة الإسلامية، بمعناها الإسلامي، وإنما ألغـَوْا نـظـاما حـكـوميا خاصا بهم، وأزالوا رمـزا خـيـالـيا فـُتِـنَ به المسلمون لغير جَدْوَى... ("الخلافة أم جماعة المسلمين؟"، أنظر مقال الإمام في مجموعة "آثار ابن باديس"، الصادرة عن وزارة المجاهدين، سنة2005 ، الجزء الخامس، ص370 ).
والواقع أن الشيخ الإمام يُريد أن يُطوّر التّفكير في أمر الخلافة - التي لم يَعُـدْ شيءٌ في نظره يُبرّر تضييع الوقت، والجهد، في الحديث عنها، فضلا عن مُحاولة بعثها - تطويره نحو مُقاربة عامة أخرى، يُرسي من خلالها الأُسس المبدئية لنظرية في الحكم، تستجيب لأوضاع المسلمين في تلك المرحلة التاريخية من حياتهم. يعني وضع آلية لتسـيـيـر شؤون المسلمين، في مُختلف أقطارهم، و كيفما كانت أوضاع تلك الأقطار. أي من حيث هي مُستقلّة أو مُستَعْمَرة. فما هو مُحتوى هذه "الـنـّظـريـة "؟ وما هي أهمّ محاور فكرة "الجماعة الإسلامية " التي نادى بها ابن باديس في المقالة المذكورة ؟
محاور نشاط " جماعة المسلمين"
يبدأ الشيخ الإمام بالتــّذكير بأنّ لمسألة قيادة المسلمين ناحيتين أساسيتين :
الأولى : يُسمّيها " الناحية السياسية الـدُّوَلـيّة ". وهي تتصل بصلاحيات القيادة فـــي مجالات الســيـاسة الداخلية و الخـارجــيـة التي تقوم الدولة بأعبائها. و يرى أن هذه الناحية لا تعني، في الواقع، إلاّ "الأُمم الإسلامية المُستـقـلة "، أيْ ذات السّيادة الكاملة التي تـُمَـكـّنها من التصرُّف الحُرّ، المُطلق، في هذه المجالات. و نظرا إلى أحوال المسلمين، المُصابين في أكثريّتهم بالاحتلال الأجنبي لأوطانهم، فإنّه يَصِْرف النّظر تماما عــن هذه النّاحية، و لا يقول فيها شيئا. و معلوم أنّ أحوال الجزائر، و بُنود القانون الأساسي " لجمعيّة العُلماء المُسلمين الجزائريين" التي يرأسها، تمنعه من أن يقول أكثر ممّا قال، لأنّها تـُلـْزمه بعـدم الخَوْض في كلّ الأمور السّياسيّة، الداخلية منها والخارجية. لأنها من صلاحيات الدولة، والجزائر ليس فيها دولة وطنية..
الثانية : هي التي يُسَمّيها " الناحية الأدبية الاجتماعية " وهي التي يرى أنّه "يجب أن تهـتـمّ بها كلّ الأمم الإسلامية المُستقلّة وغيرها" (أي والمُسْتَعمَرة) لأنّها مُرتبطة بحياة المسلمين الخاصة. أو كما يقول عنها: " تتعلّـق بالمسلم من جهة عقيدته، وأخلاقه، و سلوكه في الحياة، في أي بُقعة من الأرض كان... و تحت أيّ سُلطة وُجــد".
هذه النّاحية الثانية من حياة المسلمين، ومن الصلاحيات و المهامّ التي تكون للقيادة في نظام حكم " الجماعة الإسلامية "، لا تـَقِـلّ، في نظر الإمام، عن الناحية الأولى، (سياسة الدولة)، ولذلك فهي عـنـده "فـي حـاجـة إلى الحِفظ ، والنّـظـام، لأجل خير المُسلمين على الخُصوص، وخير البشرية العام ". ونحن نراه، في سبيل تـقريب هذه الفكرة إلى الأذهان، وتجسيد صورتها على النحو الذي يُبَسّطها للفهم، يدعو إلى التّأمّل والتـدبّر في مُؤسسة عريقة في الغـرب المسيحي، يَعْـرفها المسلمون جيد المعرفة، وهي المؤسسة البابوية. أو ما يسمونه "دولة البابا" في الفاتيكان. يقول ابن باديس في هذا الشأن، " إن الأُمم الكاثوليكية، مثلا، على اختلاف أوضاعها السياسية، وتبايُن مشاربها وأنظارها فيها، تـَرْجع، في ناحيتها الأدبية الدينية، إلى مركز أعلى هو بابا روما، المُقدّس الشخص والقول، في نظرهم جميعا" .
فابن باديس يريد، إذن، أن يقيس على هذه المؤسسة، من حيث تفرّغها للعناية بما يُسمّيه "الناحية الأدبية الدينية ". وقـد يمكننا أن نستشفّ من كلمة " الأدبـيـة " كل الأمور الروحية والمعنوية التي تهمّ المجتمع، بما في ذلك الجوانب التشريعية، والاجتماعية، والثقافية.... وهكذا نجد الشيخ الإمام، قياسا على المؤسسة البابوية، ولكن من الناحية النظامية وحدها، دون غيرها، يقترح إقامة مؤسسة إسلامية عالمية يُسمّيها " جماعة المسلمين ". وقبل التطرّق إلى ملامح هذه "المؤسسة " نريد أن نلفت الانتباه إلى أنه ربما استعار هذا المصطلح " الجماعة الإسلامية " من تنظيم قَبَلي، عشائري، قديم في الأرياف و القُرى الجزائرية ( وهو موجود أيضا، بشكل من الأشكال، في أقطار المغرب والمشرق كلها. و قد ظل من لوازم التنظيمات القــَبَـليّة، فلذلك وجدناه في العصر الجاهلي في شكل مجالس تضم شيوخ القبيلة، وأهل الرأي والنظر فيها. ومجلس "دار الندوة" لقريش في مكة معروف، مشهور.. ) وهو في بلادنا أساسه قيام فريق من أعيان القرية، أو البلدة، أو فرع من فروع العشيرة، بتسيـير الشؤون المحلية ذات الصبغة الجماعية، مثل السهر على الأعراف والتقاليد المَرْعِـيَة في الزراعة، وأراضي الكللإ، و توزيع مياه الريّ، والتضامن في زمن الآفات، وتوفير التعليم الأوّلي للصّبيان في الكتاتيب، والصلح بين المتخاصمين جماعاتٍ وأفرادا، إلخ ... و يُسمّى هذا الفريق " الجـمـاعة ". و هي موجودة أيضا في المناطق الجبلية. و من صيغها التي ما زالت إلى اليوم تلك التي يُطلَق عليها باللّهجات الأمازيغية اسم "تاجْماعْتْ ". وهي نفس الكلمة العربية اُلبِسَتْ قالبا لغـويا أمازيغيا. و السؤال الذي نريد أن نطرحه للتفكير والتأمل فيه هو، أليست " جماعة " ابن باديس، المقترحة على مستوى " العالم الإسلامي" كله، صيغة مُطوّرة من " الجماعة " التي كانت تـسيّر الشأن المحلّي عندنا في الجزائر؟ وعند غيرنا من العرب؟ وقد عَـوَّضتْ في أريافــنـا، لعقود طويلة من السنين، السلطة الوطنية المغـيـّبة، وإهمال السلطة الاستعمارية لمواطني تلك البقاع، وتخليها عـمدا عـنها، وعن مصالحها؟ هذه مُجرّد أُطروحة؛ و لكنّها جديرة بالبحث، والدرس، والتعميق.
الملامح العامة لنظام " الجماعة الإسلامية "
تبدو الصورة العامة للتنظيم الذي يقترحه الإمام ابن باديس للجماعة الإسلامية، كما هي ملامحها فيما يلي مغايرة، بصفة كلية، للبابوية، وأول اختلافها الشديد عنها، أنها خالية من كل معاني العِصْمة والتقديس، مثلما هو شأن البابوية عند الكـثـالكة. وتتلخص المرتكزات الجوهرية التي ينبغي أن تقوم عليها "جماعـة المسلمين" في ما يلي،
1ــ الاستقلالية التامة عن الحكومات الإسلامية، والرفض القاطع لـتدخـل الحكومات الأجنبية في شؤونها. (بما فيها، طبعًا، حكومات الاحتلال)، والابتعاد التام عن السياسة. لأن الخوض في السياسة، هو مما يُغضب سلطات الاحتلال، فتبادر حينئذ إلى محاربة الجماعة، و القضاء عليها بسرعة. وهو يُلخّص هذه المنطلقات بقوله، " فعلى الأُمم الإسلامية جمعاء أن تسعى لتـَكـُونَ هذه الجماعة من أنـْفـُسها، بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخّل الحكومات، لا الحكومات الإسلامية ولا غيرها ".
2 ــ تشكيلتها: يجب أن تتكون في رأيه " من أهل العلم و الخبرة " من أبناء الأمة الإسلامية وحدهم. ذلك أنها (الأمّة) " تسعى أن تكون هذه الجماعة من أنفسها ". وواضح أنه يستبعد منها أي نوع من الوجود للأجانب، كأن تُمثل فيها سلطات الاحتلال على نحو ما، أو تجعل ضمنها بعض علماء الاستشراق لديها.
3 ــ ميدان اختصاصها: " النظر في مصالح المسلمين من الناحية الدينية والأدبية " وهو ميدان واسع يحتاج إلى ضبط و تحديد. ولكن الذي يُفهم من عباراته السابقة أنه يشمل كل ما ليس له علاقة بالسياسة و كل ما يصلح به أمر الإسلام والمسلمين في العالم.
4 ــ أسلوب عمل الجماعة: النقاش، و التداول في الأمور المعروضة، و التشاور في كل شيء يهمّ المصلحة العامّة. وهو يُلخّص ذلك كلّه بقوله عن ألأعضاء الذين تتكون منهم الجماعة : " و يُصْدِرُون، عن تشاور، ما فيه خيرٌ و صلاح ".
وكما هو شأن الشيخ الإمام ابن باديس في كل القضايا الوطنية والإسلامية والقومية التي قضى حياته في خدمتها، والدّفاع عنها، وفي مُقدّمتها، حماية الإسلام والعروبة.. فإنّه، في موضوع الخلافة، لمْ يكـْـتـَفِ بكتابة المقال الذي درسنا، هنا، بعضا من جوانبه، بل كان قد اتخذ مبادرة عملية سابقة تمثلت في مراسلة شيخ الجامع الأزهر. وقد أخبرنا عن ذلك بقوله، " لقد كنت كاتبتُ صاحب الفضيلة، شيخ الجامع الأزهر الشريف، بهذا المعنى، و لكنني لم أ تـَلَقَّ منه جوابا ". ثمّ يُضيف قائلا: " و عرفتُ السبب يوم بَلغـَـنا أن إخواننا الأزهريين هـتـفـوا، يوما، بالخلافة لملك مصر فاروق الأوّل". ويُعلّق على هذه الواقعة، في خاتمة المقال، بقوله مُوجّها كلامه بصفة مباشرة لشيخ الأزهر، " وسيرى، صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر، أن خيال الخـلافـة لن يتـحـقـق، وأن المسلمين سـينـتهـون يوما، إن شاء الله، إلى هذا الرأي "!
هكذا عبّر الشيخ ابن باديس، عــام 1938، أي منذ ما يقـرب من سبعين سنة، عـن قناعة راسخة بأنه لابدّ من البحث عن صيغة جديدة لحكم الأُمّة الإسلامية. و أن السعي وراء صيغتها القديمة إنما هو سعي بلا جـدوى". و قد حاول أن يرسم الخطوط العريضة لآلية تنظيمية تستخلص شـؤون المسلمين الدينية، والاجتماعية، والـثـقـافية، من مخالب الاستعمار، الذي كان يحتلّ معظم أقطار المسلمين، وهو لا يكتفي باستلاب السيادة الوطنية، بل يعمد إلى خنق الناس والتضيـيـق عليهــم فــي ألصق الشــؤون بحياتهم الخـاصّـة، الـرّوحية منها، والاجتماعية، وحتـى العائلية الحميمة، وتـُبعِـد، أيضا، وفي الوقت نفسه، شؤون عقيدتهم الدينية، وحياتهم الروحية عن استغلال الحكام المسلمين إياها لقضاء مآربهم السياسية وغيرها...
بقيَ أن نُشير، في خاتمة هذه المساهمة، إلى أنه لاـبد لمن يريد أن يتعمّق جوانب الموضوع لدى الإمام ابن باديس من أن يُراجع مقالين له: الأوّل عنوانه " أُصول الولاية في الإسلام"، منشور في مجلّة الشهاب، يناير/ جانفي 1938، وهو يستخرج هذه الأصول من " تحليل عميق لخطبة أبي بكر المشهورة، رضي الله عنه، تلك التي ألقاها عند توليـه الخلافة. والمقال الثاني عنوانه "مصطفى كمال رحمه الله "، منشور في مجلة "الشّـِهاب" عـدد نوفمبر 1938 (رمضان 1357هج)؛ وهو نوع من التأبين، فيه ثناء على أعمال أتاتورك وجهوده في الحرب والسّلم، وفيه إعجاب بمقاومته للاحتلال الانكليزي، وتخليص تركيا من الأطماع الاستعمارية عَـقِب هزيمتها في الحرب العالمية الأولى. وإذْ يذكـّر ببطولاته، و مناقبه، فإنه يقول عن موقفه من الإسلام : " هذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم، و يقف مُتأسـّفـا... " و ولكنّه يرى أنه ليس وحده المسؤول عن هذا الموقف.. والظاهر أن كل المُعجَبين به، من علماء المسلمين وقتئذ، كانوا يظنّون أن الذي سيبقى هو إقامة النظام الديمقراطي الجُمهوري، أما الموقف من الإسلام فسيتغير بعد وفاته. وهو ما لم يحصل. وما على الذين يندهشون لثناء الشيخ ابن باديس على مصطفى كمال أبوا لترك"، (وهو معنى اسم أتاتورك)، ما عليهم إلا أن يتأملوا عـدد الجزائريين، من مختلف الأجيال والمناطق، الذين يحملون اسم "كمال" وحتى، في بعض الأحيان اسمه كاملا "مصطفى كمال"، وقول أحمد شوقي فيه ،
الله أكبر! كـمْ في الفـتح مِن أرَبِ،
يا خالد الـتـُّركِ، جـَـدِّدْ خالدَ العرَبِ!
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]