الحرب الباردة
تأليف
بدر بن علي بن طامي العتيبي
غفر الله له
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، أمّا بعد :
فإن أحسن الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (آل عمران:102) .
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} (النساء:1) .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} (الأحزاب:70-71) .
فنحمد الله الذي أتم لنا الدين القويم ، كما قال تعالى : { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً}(المائدة: من الآية3) ، وكان ذلك بإنزال كتابه الكريم ، الذي وصفه الله بأنه { تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ}(النحل: من الآية89) ، فبه يستبين الحق ، ومن سلكه اهتدى ، ومن اهتدى به فهو مرحوم من الشقاوة ، والبشارة له من ثم بعاقبة من كان دليله القران ، وهي سعادة الدارين .
وكذلك أتم الله لنا الدين بإرسال رسوله الكريم ، كما قال تعالى { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة:128) .
روى الحاكم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله : (( ليس من عمل يقرب إلى الجنة إلاّ قد أمرتكم به ، ولا عمل يقربكم إلى النار إلاّ قد نهيتكم عنه )) الحديث .
وروى الطبراني عن أبي ذرٍ رضي الله عنه : ( تركنا رسول الله وما من طائر يقلب جناحيه في الهواء إلاّ وهو يذكر لنا منه علما ) فما من خير إلاّ ودلنا عليه ، وما من شر إلاّ وحذرنا منه .
فشمل ديننا الحنيف جميع جوانب الحياة ، ما دقّ منها وما جلّ ، كيف لا ؟ ، وهو الدين الذي علمنا بآداب الأكل والشرب والنوم بل وقضاء الحاجة ، فكيف يغفل ما هو أكبر من ذلك وأهم من مسائل الدين والدنيا ، من جميع الشؤون الدينية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وجميع شؤون الناس على تباين واختلاف أجناسهم من ذكر وأنثى ، ودياناتهم من مسلم وكافر ، وألوانهم من أبيض وأسود وأحمر وأصفر ، وأعمارهم من صغير وكبير ، ولغاتهم من عربي وعجمي .
فنحمد الله على هذه النعم السابغة ، التي كاد بنا من أجلها أعداء الدين ، ولا تزال مكائدهم تتوالى من عهد الأنبياء والمرسلين إلى هذا الزمان الغريب !! ، قال الله تعالى : { مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (البقرة:105) .
فالإسلام في هذه الأزمان تنتابه حرب شعواء شرسة طاحنة من أعدائه !!، من كل جهة !! ، مع الخور والضعف المستشري بين المسلمين في الدين والاقتصاد والسياسة .
ومن أخطر أساليب الحروب : الحروب الفكرية إذ إن الحروب العسكرية البدنية تفسد الأرض ابتداءً والناس تبعاً ، وأمّا الحروب الفكرية الدينية فهي تفسد الناس ابتداءً والأرض تبعاً !! ، وهذه أخطر ، وخاصة إذا كانت هذه الحرب تدور داخل حصون المسلمين ، ونبال الأعداء تنطلق من وراء ظهورهم من حيث يأمنون !! ، فجدّ أعداء الدين في زعزعة كثير من الثوابت الدينية في العقائد والعبادات والأخلاق بأسلحة شتى مدمرة .
فتارة بسلاح التشكيك وعدم ثبوت النصوص أو عدم الدلالة أو عدم الحجية !! ، وتارة بالتحريف للكلم عن مواضعة ، وتارة بدعوى أن المسألة خلافية والرأي فيها مفتوح للناظرين !! ، فيسقط جدار هذا الدين حجراً حجرا ، وزاوية زاوية والناس في غفلة يعمهون .
فكم من أمرٍ قطعي الوجوب أو قطعي التحريم عند المسلمين من قديم الزمان لا يقبلون فيه المساومة والنقاش أصبح اليوم على موائد الصحف والقنوات الفضائية فاكهة الأخذ والرد ، والمخالفة وإبداء الرأي والرأي الآخر !! .
ومن عظيم تلك الثوابت(1) التي أخذت أسلحة ( الدمار الشامل الفكرية ) تنقض عليها هي ( قضية حقوق المرأة في الإسلام ) ، فقبل عقودٍ قلائل مضت كنا لا نساوم ولا نقبل الكلام فيها ولا حولها !! ، والآن صارت محل انسلاخ كثير من الأقلام من حبر الحياء والحشمة فاتجهت إلى الدعوة إلى التبرج والسفور تحت شعار إرجاع الحقوق المسلوبة من المرأة !! ومساواتها بالرجل ، وكأن الإسلام معتدٍ على حقوقها عندما جعل نصف شهادتها بنصف شهادة الرجل ، وإرثها نصف إرث الرجل ، وأمرها بالقرار في البيوت ، والحجاب ... و .. و .. الخ .
فثارت ثوائر الدعاة إلى خروج المرأة وتمثيلها وقيادتها للسيارات وتوليها للمناصب السياسية ولعبها للرياضة في الأندية والمدارس والشوارع !! ، وهذه والله زفرات شرٍ يخشى علينا منها من الهلاك كما قال الله تعالى ذكره : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } (الإسراء:16)
إننا نحزن كثيراً لما يجري على إخواننا المسلمين المنكوبين في مشارق الأرض ومغاربها وما ينهال عليهم من مكائد الأعداء ، من تشريدٍ ، واغتصابٍ ، وسلبٍ ، ونهبٍ ، وقتلِ ، ولكنهم في حقيقة الحال موقفهم أوضح وأهون من موقفنا اليوم حيث صرنا تحت وطأة ( الحرب الباردة )(1) ، فحروب إخواننا تتلف الأجساد وتكون أرواحهم نقية نزيهة ، وهذه ( الحرب الباردة ) تُبقي الأجساد ولكن بأرواح ممسوخة منحرفة .
فهذه ( الحرب الباردة ) هي التي سلك فيها خصوم الأنبياء والمرسلين والدعاة المصلحين مسلك المنافقين بالكيد والخديعة ، وإتقان أساليب المراوغة والتشكيك في الأصول ، ولو أن امرأة صنعت كما صنعت صفية - زوجة الخائب سعد زغلول من نزعها للحجاب مع جموع المتهتكات أمثالها أمام قصر النيل بمصر في الميدان الذي سمّي لاحقاً بـ ( ميدان التحرير ) وأحرقت الحجاب هي وصويحيباتها وجعلنه تحت الأقدام كما يصنع اليوم بعلم إسرائيل في ذلك الميدان وغيره (2) - أقول لو أن امرأة بيننا اليوم رامت أن تصنع شيئاً من ذلك لقوبلت بقذائف النكير والسب ، والمعارضة والشجب .
ولكنهم اليوم سلكوا مسلك قائدهم الأول إبليس اللعين الذي قال الله تعالى محذراً منه : { ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين } ، وقال في سورة النور : { يا أيها الذين ءآمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه يأمر بالفحشاء والمنكر } الآية ، فوقع التحذير من خطوات الشيطان قبل شخصه لأنه لا يستجيز أحد من سائر بني آدم على كافة مللهم وأديانهم أن يشرف بتبعية الشيطان ، ولكن خطواته يستهين بها المرء حتى يقع في الجرم الأكبر .
روى الإمام أحمد والطبراني من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه ، كرجل كان بأرض فلاة فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل يجئ بالعود والرجل يجئ بالعود ، حتى جمعوا من ذلك سوادا واججوا ناراً فأنضجوا ما فيها )) .
ولهذا لا نعجب أن عامة الأفكار المنحرفة التي تتدفق من كل حدب وصوب اليوم تروج بأيدي من نشأ بين أظهرنا ويتكلم بألسنتنا(1) .
ومن حكمة الشارع وسماحة الشريعة أنه إذا حرم علينا عملاً من الأعمال حرم علينا ما يوصل إليه أو كره لنا ذلك ، كما قال تعالى : { ولا تقربوا الزنى } ، فحذّر من جناب الحمى قبل الوقوع فيه ، فكل ما يقرّب للزنى من اختلاط وسفور وتبرج وغناء وصور ... و .. ، حذّر منه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله .
وقد روى الامام أحمد والحاكم وأبو نصر في " السنة " من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه عن رسول الله قال : (( ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبي الصراط سور فيه أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داعٍ يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تتعوجوا ، وداعٍ يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد فتح شي من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والستور حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق واعظ الله في قلب كل مسلم )) .
وروى الشيخان من حديث عقبة بن نافع عن رسول الله قال : (( إيّاكم والدخول على النساء )) .
ودعاة التبرج والسفور اليوم ومن يتابع كتاباتهم ( اليومية !! ) ، يرى منهم هذا المسلك الشيطاني العجيب ، فتارة تكتب ( مصممة أزياء وطنية !! ) في بعض الصحف أن العباءة السوداء منظر حزن وكآبة للمرأة ، وأن لديها ( موضات وموديلات !! ) بألوان زاهية ( ساترة !! ) تناسب كل مناسبة ، وأخرى تقول إن المرأة ( بيننا !! ) مقيدة بـ ( قيد حديدي أسود !! ) تعني الحجاب ، ويكتب آخر مخاطباً صديقاً له بقوله ( بايعني !!(1)، على أن نفتح أكثر من ملفٍ في حق المرأة حتى إذا مُنِعْنَا من البعض يرضخ المجتمع لبعض ما نطالب ) ، ويوصيه بأن لا يكثر الجدال في مسالة واحدة من هذه المسائل وليكثر من فتح الملفات حول : ( حقوق المرأة المسلوبة !! ) بزعمه ، ويقول في آخر مقاله المنحط المتهافت : ( مدّ يدك وبايعني على أن نطرح في الساحة النقاش حول موضوع جديد وهو : فتح أندية رياضية نسائية !! )(2) .
كما قد فتحوا من قبل : ملف كشف وجه المرأة ، وقيادة المرأة للسيارة ، وتمثيل المرأة ، وتوليها المناصب الوزارية ، ومقاعد الشورى ، ودراستها في الخارج بغير محرم ، واباحة الغناء سافرة أمام الجماهير !! ، وفتح باب التعارف والتهاني والتهادي بين الأصدقاء والصديقات عبر المراسلات والإذاعات والإنترنت !! ، وإباحة الاختلاط في مقاعد الدراسة والعمل بين الجنسين ، كل هذه المطالب عندما يفجرها هؤلاء في مقدم هذه ( الحرب الباردة ) إنما لتضعف العزائم عن صدّها كلها فيرضخ المجتمع لقبول بعضها وبهذا يحقق هؤلاء انتصاراً منشودا ولو بالبعض !! ، وهكذا القذائف الفكرية المنحرفة تنهال دواليك .
ولو أن جهود الدعاة المخلصين تفانت عند بزوغ هذه الفتنة ، وشمّروا سواعد الجد والجهاد بالحجة والبيان ، والاستعانة بسلطة السلطان الشرعية ، وقمعوا هؤلاء المنحلين ، لما تجرءوا على أي مطلب آخر من مطالبهم ، وما أحسن ما سمعته من بعض إخواننا في البلاد العربية المجاورة مثلاً يُستشهدُ به عندهم يقول : ( اصرخ إذا سُرقت البيضة تسلم لك الدجاجة !! ) ، ومعناه : لو أن صاحب الدجاجة إذا سرقت من عنده البيضة سكت وتهاون بها لتجرأ اللص على العودة مرة أخرى للسرقة وربما تكون هذه المرة أكبر وتكون الدجاجة !! ، ولكن عندما يصرخ الصراخ الشديد ، ويقيم الدنيا ولا يقعدها عند سرقة البيضة منه ، يهاب ذلك اللص من العودة مرة أخرى ، ولسان حاله يقول خائفاً : ( هذا فعله في البيضة فكيف لو سرقت الدجاجة !! ) .
وأفضل من هذا المثل ، قول النبي : (( مثل القائم في حدود الله ، والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة ، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا ، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن اخذوا على أيديهم نجوا ، ونجوا جميعاَ )) رواه البخاري والترمذي من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه .
فكان الحقيق بكل مسلم ومسلمة على شتى طبقاتهم إذا علموا وجه المنكر أن ينكروه ويجابهوه ، ويجابهوا دعاة التبرج والسفور فلا يخرج أحدهم من عموم قوله : (( من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان )) الحديث رواه مسلم.
روى محمد بن نصر في " السنة " عن رسول الله مرسلا : (( كل رجل من المسلمين على ثغرة من ثغر الإسلام ، الله الله لا يؤتى الإسلام من قبلك )) .
ثم روى عن الحسن بن صالح بن حي قال : ( إنما المسلمون على الإسلام بمنزلة الحصن فإذا أحدث المسلم حدثاً ثغر في الإسلام من قبله ، فإن أحدث المسلمون كلهم فاثبت أنت على الأمر الذي لو اجتمعوا عليه لقام الدين لله بالأمر الذي أراده لخلقه لا يؤتى الإسلام من قبلك ) .
وفي مثل هذا المعنى قوله : (( لا يحقرن أحدكم نفسه !! ، قالوا : يا رسول الله وكيف يحقر أحدنا نفسه ؟! ، قال : يرى أن عليه مقالاً ثم لا يقول فيه ، فيقول الله عز وجل يوم القيامة: ما منعك أن تقول في كذا وكذا ؟ ، فيقول : خشية الناس ! ، فيقول : فإياي كنت أحق أن تخشى )) رواه ابن ماجة بسند حسن عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه .
فلا يحتقر المسلم نفسه في أن ينشر حجة الله على خلقه و { لا يكلف الله نفساً إلاّ وسعها } ، فساهم أخي المسلم بكل ما تستطيع في نشر دين الله ، وتوعية الناس التوعية الصالحة ، وثق تماماً أن عامة ما يحصل في الناس من تفريط هو من جرّاء الذنوب والمعاصي وتقصير المصلحين ، وقد قال شيخنا الإمام العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله : ( إن الدعاة لو أنهم بينوا الإسلام على وجهه الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم حق البيان لدخل الناس في دين الله أفواجا كما قال الله تعالى ذكره في سورة النصر : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } (النصر:1-3)
قلت : وهذا يعني أن التقصير من عند أنفسنا ، ولا يكن عنك حديث السفينة السابق ببعيد ، قال الله تعالى : {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ * وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ } (هود:116-117).
ولكن الله يهلك القرى وفيهم الصالحون ، كما قال النبي لما سألته زينب بنت جحش رضي الله عنها : أنهلك وفينا الصالحون ؟! .
قال : (( نعم إذا كثر الخبث )) متفق عليه .
وقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله ، إن الله أنزل سطوته بأهل الأرض ، وفيه الصالحون فيهلكون بهلاكهم ؟! ، فقال : (( يا عائشة ، إن الله عز وجل إذا أنزل سطوته بأهل نقمته ، وفيهم الصالحون ، فيصيرون معهم ثم يبعثون على نيّاتهم)) رواه ابن حبان .
روى الإمام أحمد والترمذي وأبو داود عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية وتضعونها على غير موضعها : { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } الآية (المائدة:105) ، وإنما سمعنا رسول الله يقول : (( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه ، أوشك أن يعمهم الله بعقاب )) .
وإني سمعت رسول الله يقول : (( ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، ثم يقدرون على أن يغيروا ولا يغيرون ، إلاّ أوشك أن يعمهم الله بعقاب )) .
وروى أبوا داود وابن ماجة من حديث جرير رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله يقول : (( ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي ، يقدرون على أن يغيروا عليه ولا يغيرون إلاّ أصابهم الله منه بعقاب قبل أن يموتوا )) .
وروى أبو داود واللفظ له ، والترمذي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل ، فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله ، فلا يمنعه أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ) (المائدة:78-80) إلى قوله : {فاسِقُونَ } )) ، ثم قال : (( كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ، ولتأطرنه على الحق أطرا )) ، ومعنى تأطرنه : أي تعطفه وتقهره إلى اتباع الحق .
وروى ابن ماجة وابن حبان عن عائشة رضي الله عنها قالت : دخل رسول الله ، فعرفت في وجهه أنه قد حضره شي فتوضأ ، وما كلّم أحداً ، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول ، فقعد على المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، وقال : (( يا أيها الناس ، إن الله يقول لكم : مروا بالمعروف ، وانهوا عن المنكر ، قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم ، وتسألوني فلا أعطيكم ، وتستنصروني فلا أنصركم )) ، فما زاد عليهن حتى نزل .
ومثل هذا كله قول الله تعالى في قصة أهل السبت : {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} (الأعراف:165) ، فأهلك الله طائفة ، وعفى عن الذين نهوا عن السوء وسكت عن الثالثة : الذين قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً) (الأعراف:164) . وكان ابن عباس يبكي بكاءاً شديداً عند هذه الآية ويقول : فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا ، ليت شعري مالله صانع بهم ، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها .
هذه الآثار غيض من فيض في أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يوشك أن يأخذنا نصيب منها في حقيقة الحال ، ذكرت منها ما لعلّه أن يوقظ القلوب الوسنانة ، وتقيم لهذا الأصل العظيم قوائم أركانه ، ولولا خشيت أن نخرج عن المقصود ، لذكرت منها ما تنقطع به علائق قلوب أهل التوحيد من الخوف مما ورد من شديد الزجر والوعيد ، على المقصرين في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وما توعدهم الله به ، ولكن عسى الله أن ينفع بما تقدم الوعظ به ، وتكون به نجاة من عرف ونبه ، والله المستعان ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
فصل
فيما يطلب ممن رام النصيحة والإنكار ؟!
لاشك أن الناظر إلى حال المجتمعات اليوم يلحظ التغير الشديد ، والتدني الفاضح لموقف العامة من قضية حجاب المرأة واحتجابها !! ، حتى أصبح القرار في البيوت ، والتمسك بالحجاب الشرعي للمرأة في أنظار البعض : هي ميزة العجائز اللواتي أكل عليهن الزمن وشرب !! ، أو مجموعة من الفتيات المتشددات اللواتي تأثرن ( بالتيار الديني المتشدد !! ) على حدّ تعبيرهم !! ، ويقولون : (( إن المرأة الانفتاحية هي : تلك المرأة التي تسهم في بناء المجتمع !! )) ، وكأن هذا البناء لا يتم إلاّ بكشف الوجه!! ، وقيادتها للسيارة !! ، وابتعاثها في الخارج !! ، وتوليها للمناصب !! ، ومزاحمتها للرجال في أعمالهم حتى في ساحات القتال والمعركة في الأرض والجو والبحر !! .
هذه مزاعمهم إن كانت عليكم تخفى !! ، والله يعلم سر نواياهم وأخفى ، وهم دعاة الفاحشة والرذيلة من حيث علموا أم لم يعلموا ، وليذكروا قول الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} (النور:19) ، فلم نرَ المرأة الانفتاحية إلاّ في أعفن الأوساط كالوسط الفني الغنائي والتمثيلي !! ، ولم نلحظ لتلك المرأة الانفتاحية مشاركة في الدعوة إلى الله وتعليم التوحيد والصلاة وواجبات المرأة في الإسلام ، لم نشاهد هذه المرأة الانفتاحية تحارب الأفكار المنحرفة المستوردة بل هي بالعكس من ذلك ، فهي الأرض المعبدة لوطء الأقدام !! ، والشارة المنصوبة لرمي السهام ! ، يلعب بهن الرجال ، وكل يستمتع بها بالمباشرة والمشاهدة في الحل والترحال !! .
وعلى هذا المنظار ( للمرأة الانفتاحية !! ) ، تكون خديجة وعائشة وأسماء وأم حرام وأم سليم ، وغيرهن من نساء الصحابة ، جنين على بناء الإسلام بالهدم والتحطيم!! .
وحاشاهن والله فهن اللواتي نصرن الإسلام باليد واللسان ، فقد شدّ الله أزر الإسلام منذ شروق شمس النبوة بالمرأة المسلمة ، فهي مع الرجل في الدعوة إلى الله ، وهي معه في الحرث والنسل ، وهي معه حتى في الجهاد على القدر المشروع لها من تطبيب المرضى ومساعدة المحتاج ، وإلاّ فجهادهن الشرعي هو الحج والعمرة مرة واحدة في العمر ثم ظهور الحصر ، كما قاله النبي (1) .
إذا تقرر ما حركنا به سواكن الهمم في قلوب قاصدي القمم ، وما سبق الوعظ به من الترهيب من ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فما هو المطلوب منّا بعد إذ هدانا الله لاتباع سبيل الحق القويم ، والصراط المستقيم ؟! ، وكيف نؤدي واجب النصيحة والإنكار ؟! ، فيقال : هذا سؤال وارد ممن رام السلامة وشمّر عن سواعد الجدّ في إنكار المنكر ، وبذل النصيحة لعموم المسلمين مما يكاد بهم وبدينهم ، ويجاب عليه :
بأن الواجب على من امتثل للتصدي للمنكرات والرد عليها ، ونصيحة الناس وإرشادهم أن يراعي ستة أصول :
الأصل الأول : الإخلاص لله تعالى .
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والنصيحة من أجل العبادات ، والقاعدة الشرعية تنص على أن قبول العبادة متوقف على الإخلاص لله وحده .
قال الله تعالى : { وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ } (البينة:5) ، وقال تعالى : {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ }(الزمر: 3) ، وقال : { إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } (النساء:146) ، والنصرة والتأييد وكفاية الشرور تكون بإخلاص العبادة لله كما قال تعالى : {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} (يوسف:24) .
روى النسائي في "السنن" وأصله في البخاري عن مسعد بن مصعب عن أبيه رضي الله عنه أنه ظن أن له فضلاً على من دونه من أصحاب رسول الله ، فقال النبي : (( إنما تنصر هذه الأمة بضعيفها بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم )) .
فبالإخلاص تنكشف الغمة ، وتلتهب الهمّة ، وتنجوا الأمة ، ولا يخفى علينا حديث الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في الغار فدعا كل منهم بصالح عمله وخالصه ، فكشف الله عنهم تلك المحنة والبلية بفضل صلاحهم وإخلاصهم ، والحديث رواه البخاري ومسلم .
قال سهل بن عبدالله التستري رحمه الله : ( الناس موتى إلاّ العلماء ، والعلماء سكارى إلاّ العاملون ، والعاملون مغرورون إلاّ المخلصين ، والمخلصون على وجل حتى يُعلم ما يختم الله لهم به ) .
وهو ضرب من الجهاد الذي أمر الله به ، ولهذا عامة من يذكر أصول الأمر والمعروف والنهي عن المنكر يذكره تحت أبواب الجهاد وأحاديثه ، ولا يقبل الله جهاد مجاهد في غير سبيل الله عز وجل .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( وتحقيق ذلك أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أوجب الأعمال وأفضلها وأحسنها وقد قال تعالى : {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } (هود: 7) ، وهو كما قال الفضيل بن عياض رحمه الله : أخلصه وأصوبه ، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل ، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ، حتى يكون خالصاً صواباً ، أن يكون لله ، والصواب أن يكون على السنة .
فالعمل الصالح لابد أن يراد به وجه الله تعالى ، فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلاّ ما أريد به وجهه وحده ، كما في الحديث الصحيح عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه عن النبي قال : ((يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا منه برئ وهو كله للذي أشرك )) .
وهذا هو التوحيد الذي هو أصل الإسلام ، وهو دين الله تعالى الذي بعث به جميع رسله ، ومن أجله خلق الخلق ، وهو حقه على عباده ، أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، ولا بد مع ذلك أن يكون العمل صالحاً ، وهو ما أمر الله به ورسوله وهو الطاعة ، فكل طاعة عمل صالح ، وكل عمل صالح طاعة ، وهو العمل المشروع المسنون ، العمل المشروع المسنون هو : المأمور به أمر إيجاب أو استحباب ، وهو العمل الصالح وهو الحسن وهو البر ، وهو الخير ، وضده المعصية والعمل الفاسد والسيئة والفجور والظلم.
ولما كان العمل لا بد فيه من شيئين : النية والعمل ، كما قال النبي : ((أصدق الأسماء حارث وهمام )) ، فكل أحد حارث همام ، له عمل ونية ، لكن النية المحمودة التي يقبلها الله ويثيب عليها هي أن يراد الله وحده بذلك العمل ، والعمل المحمود هو الصالح ، وهو المأمور به ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم اجعل عملي كله صالحا وأجعله لوجهك خالصاً ولا تجعل لأحدٍ فيه شيئا .
وإذا كان هذا حد كل عمل صالح فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يجب أن يكون ذلك ، هذا في حق الآمر الناهي نفسه . ) انتهى كلامه رحمه الله .
الأصل الثاني : إتباع السنة في الإنكار ، وهذا من فقه السيرة .
لأن أعظم نجاح كان في هداية الخلق وإزالة ما هم عليه من منكرات هي سيرة النبي الدعوية ، حيث آمن به من الخلائق عدد لا يحصون ودخل الناس في دين الله أفواجا كما قال تعالى ذكره : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } (النصر:1-3) .
فلا بدّ لمن امتثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر النظر في سيرة النبي ، والتفقه بها ، فيجد أن سيرته في الإنكار متنوعة بتنوع الأشخاص والمواطن الزمانية والمكانية ، فما أنكره وهو في مكة غير ما أنكره وهو في المدينة ، وما أنكره وهو في أرض الحرب غير ما أنكره وهو في أرض السلم ، كذا إنكاره على المتعلم غير إنكاره على الجاهل ، وإنكاره على حديث العهد بالكفر غير إنكاره على من رسخ في الإسلام ، وإنكاره على ذوي الهيئات غير إنكاره على عامة الناس ، وإنكار المنكر على الحدث الصغير غير إنكاره على الشيخ الكبير ، كذا يتنوع بتنوع المنكر فإنكاره للشرك غير إنكاره لسائر الذنوب .
كل هذه مواطن سجل عن النبي صلى الله عليه وسلم صور شتى من قوة الإنكار ولينه ، والردع والهجر وعدمه ، وهذا هو عين السياسة الشرعية النبوية ، ولولا أن يخرج الكتاب عن مقصود تأليفه لذكرت على كل ما تقدم شاهد ذلك من السنة النبوية الثابتة عنه ، وكتب السيرة قريبة الوصول ، لا يمل من قراءتها المجتهد ولا تعيي الكسول .
وسنة النبي أولى بالإتباع من جميع طرائق الرجال والله تعالى يقول : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} (الأحزاب:21) ، وقال : { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) (التوبة:128) ، وهو القائل ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )) رواه الإمام أحمد وغيره عن العرباض بن سارية رضي الله عنه بإسناد صحيح .
فطريقته عليه الصلاة والسلام أسلم الطرق وأحكمها ، ولهذا تجد أن أهل السنة هم الذين سلكوا الطريق المستقيم في إنكار المنكر من بين أهل الأهواء من الخوارج والمرجئة وغيرهم .
الأصل الثالث : العلم الشرعي الذي به يُنكر المنكر .
وذلك لأن العلم سلاح بتار ، وشعلة من نار ، يحارب به ويستضاء ، والجاهل يفسد أكثر من أن يصلح .
وكما قال الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : ( كم مريد للخير لم يدركه ) .
وقال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : ( من عبد الله بغير علم ، كان ما يفسد أكثر مما يصلح ) .
وقال سفيان الثوري : ( لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلاّ من كان فيه ثلاث خصال : رفيق بما يأمر رفيق بما ينهى ، عدل بما يأمر عدل بما ينهى ، عالم بما يأمر عالم بما ينهى ) .
ولهذا اتفقت العقول السليمة على أن هلاك الناس من ثلاثة أشخاص : نصف فقيه ، ونصف طبيب ، ونصف نحوي ، فالأول يفسد الأديان والثاني يفسد الأبدان والثالث يفسد اللسان ، نص على ذلك أهل العلم .
وهؤلاء هم أنصاف المتعلمين ، لا ظهراً أبقوا ولا أرضاً قطعوا ، فلا هم بالجهل اعترفوا ، ولا بالعلم والتحقيق شرفوا ، فما يفسدون أكثر مما يصلحون ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
فكم من مُنْكرٍ للمنكر لا يعي وجه الإنكار ، ولربما تسرع متسرع بإنكار ما ليس بمنكر !! ، فأورث على الإسلام عاقبة وخيمة ، وأحدث منكراً أخطر وأشد .
قال النووي رحمه الله في شرح "صحيح مسلم " : ( ثم إنه يأمر وينهى من كان عالماً بما يأمر به ، وينهى عنه ، وذلك يختلف باختلاف الشيء ، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة ، كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها ، فكل المسلمين علماء بها ، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ، ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء ) .
قلت : وقوله ( دقائق الأفعال والأعمال ) معناه مسائل الاجتهاد وهو معنى قول بعض أهل العلم : ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) ، ولا يصح أن يقال : ( لا إنكار في مسائل الخلاف ) ، لأن الخلاف منه ما هو مستساغ ومنه ما لا يكون كذلك ، والأول لا عبرة به و لا يؤخذ باجتهاده ذلك ، فعامة أهل الأهواء والبدع خرجوا وخالفوا باجتهاد ، ولكنه غير مستساغ عند أهل العلم ، فليس كل خلاف يعذر فيه المخالف حتى يكون هذا المخالف خالف باجتهاد مستساغ عند أهل العلم ، قال الشاعر :
وليس كل خلاف جاء معتبر إلاّ خلاف له حظ من النظر
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله : ( وقولهم مسائل الخلاف لا إنكار فيها ليس بصحيح ، فإن الإنكار إمّا أن يتوجه إلى القول بالحكم أو العمل ، أمّا الأول فإذا كان القول يخالف سنة أو إجماعا قديما وجب إنكاره وفاقاً وإن لم يكن كذلك فإنه ينكر بمعنى بيان ضعفه عند من يقول المصيب واحد وهم عامة السلف الفقهاء .
وأمّا العمل فإذا كان على خلاف سنة أو إجماع وجب إنكاره أيضاً ، بحسب درجات الإنكار كما ذكرناه من حديث شارب النبيذ المختلف فيه وكما ينقض حكم الحاكم إذا خالف سنة وإن كان قد اتبع بعض العلماء .
وأما إذا لم يكن في المسألة سنة ولا إجماع وللاجتهاد فيها مسوغ فلا ينكر على من عمل بها مجتهداً أو مقلداً ، وإنما دخل هذا اللبس من جهة أن القائل يعتقد أن مسائل الخلاف هي مسائل الاجتهاد كما اعتقد ذلك طوائف من الناس ، والصواب الذي عليه الأئمة أن مسائل الاجتهاد ما لم يكن فيها دليل يجب العمل به وجوباً ظاهراً مثل حديث صحيح لا معارض له من جنسه فيسوغ له ـ أي الاجتهاد ـ ) إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى .
الأصل الرابع : مراعاة المصلحة والمفسدة .
وهذا لا يعيه إلاّ من ألمّ بالأصل السابق بتوفيق من الله وهداية ، ولا شك أن معرفة مصالح العباد ومفاسدها من أوجب ما يجب على من امتثل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والحكم للغالب منهما لا مطلق تقديم درء المفاسد على جلب المصالح ، فتارة تكون المصلحة لا تتحقق إلاّ مع وقوع المفسدة ولكنها أهون من شأن المصلحة المتحققة ، وتارة تكون المفسدة لا تدرأ إلاّ بدفع المصلحة المتحققة ولكنها أهون من خطر المفسدة المدفوعة ، أمّا عند تساوي المرتبتين فدرء المفاسد مقدم على جلب المصالح وهذا المراد بهذه القاعدة عند أهل العلم .
ومن صورة جلب المصالح المقدمة على درء المفاسد عند علو المصلحة على المفسدة ما حصل من صنيع النبي في صلح الحديبية .
ومن صورة دفع المفسدة المقدم على جلب المصلحة عند علو المفسدة على المصلحة ما حصل من امتناعه من هدم البيت وبناءه على قواعد إبراهيم .
ومعرفة علو أحد الجانبين على الآخر لا يحصل إلاّ بالعلم والعدل .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى : ( لكن اعتبار المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على إتباع النصوص لم يعدل عنها ، وإلاّ اجتهد رأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون بها خبيراً بها وبدلالتها على الأحكام .
وعلى هذا إذا كان الشخص والطائفة جامعين بين معروف ومنكر بحيث لا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً أو يتركوهما جميعاً ، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا ينهوا عن منكر ، بل ينظر ، فإن كان المعروف أكثر أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم بل يكون النهي حينئذٍ من باب الصد عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وزوال فعل الحسنات .
وإن كان المنكر أغلب نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون المر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه آمراً بمنكر وساعياً في معصية الله ورسوله .
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ، لم يأمر بهما ولم ينه عنهما ، فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي ، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين وذلك في الأمور المعينة الواقعة ) إلى آخر كلامه رحمه الله .
الأصل الخامس : الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن ، والترهيب من الحماس المفرط .
وقد جاء الأمر بذلك في محكم التنزيل كما قال تعالى : {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل:125) ، وقال تعالى: { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} (آل عمران:159) ، وقال تعالى : { فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (طـه:44) ، وقال : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}(فصلت: من الآية34) .
وروى الإمام أحمد ومسلم وغيرها من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله : (( ما كان الرفق في شي إلاّ زانه ، ولا نزع من شي إلاّ شانه )) .
وروى الإمام أحمد وغيره من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : قال رسول الله : (( إن الله رفيق يحب الرفق ، ويعطي عليه مالا يعطي على العنف)).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي موسى وأنس رضي الله عنهما ، عن النبي قال : (( يسروا ولا تعسروا ، وبشروا ولا تنفروا )) .
وعندما أوذي النبي من قريش قال : ((ربّي اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)).
قال الإمام أحمد : ( الناس محتاجون إلى مداراة ورفق ، والأمر بالمعروف ، لا غلظة ، إلاّ رجل معلن بالفسق فلا حرمة له ) .
و الشكاية اليوم من قطّاع الطريق بين الناس وبين الله عز وجل الغفور الرحيم كما قال : (( إن منكم منفرون )) ، وكما قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( كم مريد للخير لم يدركه ) ، فلربما أساء منهم مسي في الإنكار وأغلظ على العاصي فيتولى الآخر كبره ويتحقق منه الإعراض والاستكبار ، بعدما كان داؤه مجرد الغفلة التي يستطيع الداعي أن يدعوه بالرفق واللين في القول .
كيف والأمر زاد ببعض الجهال فارتكبوا منكراتٍ أشد من التخريب والتدمير والتكفير بغير بينة مما جر على المصلحين الصادقين ضريبة هذا التهوّر .
الأصل السادس : الصبر على الأذية في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فلابد أن يلاقي الآمر والناهي من الأذية مثل ما لقيه الدعاة المخلصين من قبله من الأنبياء والصالحين كما قال : (( أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل )) ، رواه الإمام أحمد والبخاري من حديث سعد رضي الله عنه .
وبذلك كانت وصية العبد الصالح لقمان الحكيم لابنه كما حكى الله تعالى في قوله : { وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (لقمان:17) ، وقال تعالى : {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ } (آل عمران:186) .
ومن صدق عمله وخلص كان القبول نصيبه من الناس ، ومتى تحقق منه الصدق والإخلاص يتحقق له النصرة والتأييد بإذن الله تعالى ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة:24) .
قال الشافعي رحمه الله تعالى : ( بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ) .
ورتب الله تعالى الفلاح والنصرة على الصبر والمصابرة والمرابطة كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران:200)
وقال تعالى : {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } (الروم:47) ، وهذا وعد من الله لعباده المؤمنين ، وشرف الله أهل الصبر بمعية نصره وتأييده كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(البقرة: 153) ، وجرت سنة الله أن الإيمان لا يصح لهم إلاّ بالابتلاء كما قال تعالى : { الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} (العنكبوت:1-2) .
ولك أن تتأمل ما حصل للأنبياء وأولوا العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام ومبلغ أذية أقوامهم بهم ، وهذه حال الحرب بين الحق والباطل من قديم الزمان ، من عهد الأنبياء وخصومهم ، وأهل التوحيد والسنة وأتباعهم من السلف الصالح وخصومهم ، فهاهو آدم عليه السلام وخصومة إبليس عليه لعنة الله له وكيده به حتى صنع ما صنع وعاقبه الله بأن أخرجه وذريته من الجنة ، وما ذلك إلاّ للحسد الكامن في نفس إبليس وتكبّره عن أمر ربّه !! ، ولذا خانه بعدما قاسمه بأنه له لمن الناصحين !! ، وكذلك سائر الأنبياء وأولو العز من الرسل ، فقد تنوع أعداؤهم في تعدد أنواع العداوة معهم ، فتارة بالسب والشتم وأنهم سحرة !! وكذبة !! ومجانين !! وظلمة !! ومفسدون في الأرض !! ويفرقون بين الناس !! ويبدلون الدين !! ذكر ذلك كله عنهم الله في كتابه الكريم ، واتهموهم بأنهم يطلبون السلطة والكبرياء في الأرض !! ، كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام في قوله تعالى : {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ }(المؤمنون: 24) ، وكما قال قوم فرعون لموسى عليه السلام فيما حكى الله عنهم : { قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } (يونس:78) .
وتارة يبلغ عداؤهم إلى الكذب والافتراء عليهم ، كما في قوله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ }(البقرة: 102) ، وكما قال تعالى عن عيسى عليه السلام : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ } (المائدة:116) .
وتارة يبلغ عدوانهم بانتقاصهم لأنبياء الله واحتقارهم لعقولهم ، فاتهموهم بالجنون والسفه كما حكى الله عنهم في آيات عدّة ، ومن احتقارهم لهم قولهم فيما حكى الله عنهم : { فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} (هود:27) ، وقالوا : { قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (الشعراء:111) ، وقال قوم إبراهيم له عليه السلام فيما أخبر الله عنهم : {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} (الأنبياء:55) ، وقال بنو اسرائيل لموسى عليه الصلاة والسلام عندما أمرهم أن يذبحوا بقرة : { أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ }(البقرة: 67) ، ومن تهكمهم بموسى عليه السلام ما حكى الله عنهم في قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ } (الزخرف:47).
وربما تطاول بهم الأمر إلى الاعتداء عليهم ، كما قالوا لنوح عليه السلام : {قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ } (الشعراء:116) ، وقالوا لإبراهيم عليه السلام : { يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً } (مريم:46) ، وكما قال فرعون لعنه الله لنبي الله موسى عليه السلام : { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} (الشعراء:29) ، وكما حكى الله عن حال المشركين من الجن والإنس مع نبينا محمد : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} (الجـن:19) وقال جل شأنه : { وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } (القلم:51) .
بل ربما تطاول الأمر إلى قتلهم !! ، كما قالوا في إبراهيم عليه السلام : {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } (الأنبياء:68) ، وقال تعالى : { وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) (الأعراف:127) ، وقال الله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ } (غافر:25) .
وأكثر أخي من تأمل سيرة النبي ، وكيف صبره على قومه ، فقد ألحقوا به كل ما يخطر بالبال من أذية ، فتنقصوا دينه ، وعرضه ، وعقله ، وجسده ، وماله ، وطرد من أرضه ، فقالوا عنه أنه ساحر ، ويقتل الناس ، ويفرق بين الأخ وأخيه ، وأنه أبتر لا ينجب ، واتهموا زوجه عائشة الطاهرة بالفاحشة ، وقالوا عنه مجنون وكذاب ، وأدموا وجهه وشجوا رأسه وكسروا رباعيته ، وطعنوا في تقسيمه للصدقة واتهموه بعدم العدل ، كل هذا أصاب النبي ، ولم يمنعه ذلك من تبليغ دين الله والرأفة بهم وتكرار دعوتهم وقتالهم ، حتى يشهدوا أن لا إله إلاّ الله وأنه رسول الله .
وهكذا تأتي خصومة أهل الحق مع أهل الباطل في كل آن وحين ، وخلَف أعداء الأنبياء الكثير ، ومنهم أهل البدع والأهواء ، وقد قررت في مواضع أخرى أن كل صفة من صفات اليهود والنصارى وأهل الجاهلية فإنه يوجد مثلها في أهل الأهواء من أمة محمد ، وبهذا يقع مصداق قول النبي : (( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لدخلتموه )) .
وروى الإمام أحمد والنسائي وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله : (( إن منكم من يقاتل على تأويل القران كما قاتلت على تنزيله ، [قال أبو سعيد] : فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر ، فقال لا ، ولكنه خاصف النعل ، يعني علياً رضي الله عنه )) ، حيث أنه كان حينئذ يخصف نعل النبي التي قطعت عند باب المسجد ، وقد وقع مصداق ذلك حيث قاتل علي رضي الله عنه الخوارج الذي تأولوا القران على غير تأويله ، وذا من دلائل نبوته .
وروى الإمام مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ((ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلاّ كان له من أمته حواريون و أصحاب يأخذ