قال ابن جرير : ( والجلباب رداء فوق الخمار تستر من فوق إلى أسفل ، يعني يرخينها عليهن ويغطين وجوههن وأبدانهن ) .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه : ( أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن وجوههن من فوق رؤوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة ) .
وروى ابن جرير بإسناد جيد عن محمد بن سيرين قال : سألت عَبيدة السلماني عن قول الله تعالى : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى .
قال شيخ الإسلام بن تيمية في الفتاوى ( 15/371-372 ) : ( وأمر سبحانه بإرخاء الجلابيب لئلا يعرفن ولا يؤذين ، وهذا دليل على القول الأول ، وقد ذكر عبيدة السلماني وغيره : أن نساء المؤمنين كن يدنين عليهن الجلابيب من فوق رؤوسهن حتى لا يظهر إلاّ عيونهن لأجل رؤية الطريق ، وثبت في الصحيح: (( إن المرأة المحرمة تنهى عن الإنتقاب والقفازين )) ، وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ) إلى أن قال : ( إنما ضرب الحجاب لئلا ترى وجوههن وأيديهن ) .
وقال رحمه الله (22/110- 120 ) : ( وكانوا قبل أن تنزل آية الحجاب كان النساء يخرجن بلا جلباب ، يرى الرجال وجهها ويديها ، وكان إذ ذاك يجوز لها أن تظهر الوجه والكفين ، وكان حينئذ يجوز النظر إليها ، لأنه يجوز إظهاره ، ثم لما أنزل الله عز وجل آية الحجاب بقوله : { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } حجب النساء عن الرجال .. ) .
إلى أن قال : ( والوجه واليدان والقدمان ، ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين ، بخلاف ما كان قبل النسخ ، بل لا تبدي إلاّ الثياب ) .
إلى أن قال رحمه الله : ( ولهذا أمرت المرأة في الصلاة أن تختمر ، وأما وجهها ويداها وقدماها فهي مما نهيت عن إبداء ذلك للأجانب ، ولم تنه عن إبدائه للنساء ولا لذوي المحارم ) .
وفي قوله تعالى : { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ } ، ذكرٌ للعلة المانعة من كشف المرأة لوجهها هو خشية الأذية من الآخرين ، فليتق الله دعاة نزع الحجاب المتفوهين بسلامة القلوب ، وليتأملوا كيف أن الله تعالى أوضح لنا أن كشف الوجه سبب رئيس من أسباب الأذية للمرأة وهذا واقع ثابت يشهد له العالم من حولنا من وقوع الاختطاف ، وانتهاك الأعراض ، وجرائم الاغتصاب ، مما لا يجحده إلا مكابر .
وقد بوّب البخاري في صحيحه ( باب : شهادة الأعمى وأمره ونكاحه و إنكاحه ومبايعته وقبوله في التأذين وغيره ) ، ثم قال البخاري : ( وأجاز سمرة بن جندب شهادة امرأة منتقبة ) .
قلت : أي أنه لم يكن يرَ وجهها .
وروى عبدالرزاق وعبد بن حميد وجماعة عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : (لما نزلت هذه الآية { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ } ، خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة ، وعليهن أكسية سود يلبسنها ) ، "الدر المنثور" (6/659) ، ثم ساق آثاراً عدّة عن الصحابة وأئمة التابعين تنص على ما أردنا تقريره فليراجع والله أعلم .
قصة عجيبة : روى الخطيب البغدادي في تاريخه (13/53) عن محمد بن أحمد القاضي قال : حضرت مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين ، فتقدمت امرأة فادعى وليها على زوجها خمسمائة دينار مهراً ، فأنكر ، فقال القاضي : شهودك ، قال : قد أحضرتهم ، فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته ، فقام الشاهد وقال للمرأة قومي !! ، فقال الزوج : تفعلون ماذا؟ ، قال الوكيل : ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة لتصح عندهم معرفتها!! ، فقال الزوج : فإني أشهد القاضي أن لها عليّ هذا المهر الذي تدعيه ، ولا تسفر عن وجهها ، فردت المرأة وأخبرت بما كان من زوجها ، فقالت المرأة : فإني أشهد القاضي أني قد وهبت له هذا المهر وأبرأته منه في الدنيا والآخرة ) .
الدليل الثالث : قال تعالى : { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (النور:60) .
وجه الدلالة : أن الشارع رخص للنساء العجائز اللاتي لا يرجى منهن نكاحاً أن تكشف عن وجهها وتضع ثيابها شريطة أن لا يكون في ذلك تبرج بزينة !! ، وهي عجوز مع أن العفة والاحتجاب منها أولى ، فكيف بمن هي في سن الشباب ، فهذا من مفهوم الآية أنهن لا رخصة لهن في كشف الوجه والعورة وإلا لما كان لتخصيص القواعد من النساء في هذه الآية فائدة .
وبهذا قال أئمة التفسير من الصحابة ومن بعدهم :
قال ابن كثير في تفسيره ( 6/91 ) : ( قال ابن مسعود رضي الله عنه : {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} : الجلباب أو الرداء ، وكذا روي عن ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وأبي الشعثاء ، وإبراهيم النخعي ، والحسن ، وقتادة ، والزهري ، والأوزاعي وغيرهم ) .
وفي قوله تعالى : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } إرشاد إلى الأولى والأكمل وهو الاحتجاب ، خاصة إذا كان فيها من الجمال بقية ، فإنها تؤمر بالحجاب .
قال البغوي : ( قال ربيعة الرأي : هن العجز اللائي إذا رآهن الرجال استقذروهن ، فأمّا إن كانت فيها بقية من جمال ، وهي محل الشهوة ، فلا تدخل في هذه الآية ) .
وروى رزين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : ( كانت أم سلمة لا تضع جلبابها وهي في البيت طلباً للفضل ) ، من جامع الأصول ( 10/647 ) .
وما أحسن ما روى سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي عن عاصم الأحول قال : كنا ندخل على حفصة بنت سيرين ، وقد جعلت الجلباب هكذا وتنقبت به ، فنقول لها : رحمك الله قال الله تعالى: { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} هو الجلباب ، قال : فتقول لنا : أي شي بعد ذلك ؟ ، فنقول : { وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ } ، فتقول : هو إثبات الحجاب ) من الدر المنثور ( 6/222 ) .
أقول : هذا هو شأن العفيفات النزيهات وإن كنّ من العجائز ، فكيف بمن هي محل للفتنة من الفتيات الجميلات ، فالعفة مطلوبة منهن من باب أولى .
الدليل الرابع : قال تعالى ذكره : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } الآية (الأحزاب: 53) .
وهذه الآية هي آية الحجاب ، وقد جاء في سبب نزولها أحاديث عدة ، أشهرها حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال عمر رضي الله عنه : ( قلت يا رسول الله يدخل عليك البرّ والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب ) رواه الإمام أحمد والبخاري .
وجاء فيها قصة أخرى ، وهي ما قاله أنس رضي الله عنه ، فقال : لما تزوج رسول الله زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون وإذا هو يتأهب للقيام ، فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام ، قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر ، فجاء رسول الله ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا ، فانطلقت فجئت فأخبرت النبي أنهم قد انطلقوا ، فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ } الآية (الأحزاب: 53) متفق عليه .
ورويت قصص عدّة ، والجمع بين غالبها غير متعذر لاحتمال تكرر استحثاث عمر رضي الله عنه للنبي على حجب نساءه من الناس ، كما كرر ذلك في تحريم الخمر .
وظاهر هذه الآية يخص نساء النبي كما أن سبب نزولها في ذلك ، ولكن حكمها يشمل جميع النساء بدلالة عمل نساء الصحابة بها وتلفعهن بمروطهن كأنهن الغربان ، والقاعدة الشرعية تقول : ( العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلاّ بدليل مخصص ) ، فالعبرة بعموم لفظ الآية لا بخصوص سبب نزولها حتى يأتي دليل مخصص ، وبهذا جزم ابن جرير الطبري والقرطبي وغيرهما .
ومما يدل على عمومها لجميع النساء أن العلة التي من أجلها فرض الحجاب على نساء النبي في هذه الآية موجودة في غيرهم وغيرهن من باب أولى وهي قوله تعالى : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } ، أطهر لقلوب الصحابة ، وقلوب أزواج النبي ، فكيف بسائر الرجال وسائر النساء !! .
قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى وهو يرد على من قال بأنها خاصة بنساء النبي : ( قول كثير من الناس أن آية الحجاب ـ أعني قوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ } خاصة بأزواج النبي ، فإن تعليله لهذا الحكم الذي هو إيجاب الحجاب بكونه أطهر لقلوب الرجال والنساء من الريبة في قوله : { ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من المسلمين إن غير أزواج النبي لا حاجة إلى أطهرية قلوبهن وقلوب الرجال من الريبة منهن ، وقد تقر في علم الأصول : أن العلة قد تعمم مدلولها ، وإليه أشار في " مراقي السعود " بقوله :
وقد تخصص وقد تعمم لأصلها لكنها لا تخرم
.. وبما تقدم تعلم أن في هذه الآية الكريمة الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام في جميع النساء ، لا خاص بأزواجه ، وإن كان اللفظ خاص بهن ، لأن عموم علّته دليل على عموم الحكم فيه ... ) ، من أضواء البيان ( 6/ 584-585 ) .
الدليل الخامس : قال تعالى : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} (الأحزاب:32) .
وهذه آية أخرى في الحجاب ، والأولى احتجاب فقط ، وهذه حجاب وقرار ، ووجه الدلالة : أن الله أمر نساء النبي بالقرار في البيوت ، وعدم التبرج ، وهو الخروج للناس والتكشف أمامهم ، وأن هذا من صنيع أهل الجاهلية .
ولها حكم سابقتها في عموم الحكم مع خصوصية السبب والخطاب .
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : ( هذه آداب أمر الله بها نساء النبي ، ونساء الأمة تبع لهن في ذلك .. ) تفسيره (6/405) .
وروى الترمذي في " سننه " عن ميمونة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله : (( الرافلة في غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها )) .
وعنده والبزار عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال : (( إن المرأة عورة ، فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربّها وهي في قعر بيتها )) .
كما أن النبي أمر نساءه بعدم تكرار الحج بعد حجة الإسلام ، وأمرهن بالقرار في البيوت ، فقال : (( هذه ثم ظهور الحصر )) ، رواه أحمد عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه بسند صحيح .
وفي رواية : (( فكنّ كلهن يحججن إلاّ زينب وسودة بنت زمعة ، وكانتا تقولان : والله لا تحركنا دابة بعد أن سمعنا ذلك من النبي )) .
وهذا في الحج فكيف بما هو دونه من أمور الدين والدنيا !! .
وفي الآية إشارة للاحتجاب عن الأجانب حتى بالقول الداعي إلى الفتنة ، فقال تعالى : { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } والمراد : ترخم الصوت ويدخل فيه الضحك ونحوه .
فإذا كان ترخيم الصوت والتمايع فيه مدعاة إلى طمع مرضى القلوب ، وهو يحصل من امرأة دون أخرى ، وفي مقام دون آخر ، فكيف بالداعي الملازم الذي يرى في كل امرأة ، وفي كل مقام ، ومن قصد أو من غير قصد ، وهو الوجه الذي هو عنوان جمال المرأة وبه يفرّق بين الحسناء و الدميمة !! ، فهذا أولى بالاحتجاب من الصوت ، والله المستعان .
فهذه أدلة حجاب المرأة المسلمة من نصوص القران الكريم ، تذكرة وموعظة { أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ }(قّ: 37) ، صريحة في فرضية الحجاب ، مغلقة عن أهل الشبه كل باب ، صريحة في المعاني والأحكام ، قوية في إفحام الخصم والإلجام ، فدونك إياها ، ورحم الله عبداً حفظها ووعاها وأدّاها .
القسم الثاني :
الحجاب الشرعي في السنة النبوية
الدليل الأول : ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( لقد كان رسول الله يصلّي الفجر فيشهد معه نساء من المؤمنات الفجر متلفعات في مروطهن ، ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس ) وفي لفظ : ( متلففات ) .
وجه الدلالة : أن النساء يخرجن متلفعات أو متلففات بالمروط وهي الأكسية ويشمل ذلك كامل الجسد.
قال الحافظ في " الفتح " ( 1/ 575 ) : ( قال الأصمعي : التلفع أن تشتمل بالثوب حتى تجلل به جسدك ، وفي شرح الموطأ لابن حبيب : التلفع لا يكون إلاّ بتغطية الرأس ، والتلفف يكون بتغطية الرأس كشفه ، والمروط جمع مرط بكسر أوله ، كساء من خز أو صوف أو غيره ) .
وقال في موطن آخر (2/67 ) : ( واستدل به بعضهم على جواز صلاة المرأة مختمرة الأنف والفم !! ، فكأنه جعل التلفع صفة لشهود الصلاة ، وتعقبه عياض بأنها إنما أخبرت عن هيئة الانصراف ، والله أعلم ) .
وقال : ( ولا معارضة بين هذا وبين حديث أبي برزة أنه كان ينصرف من الصلاة حين يعرف الرجل جليسه ، لأن هذا إخبار عن رؤية المتلفعة على بعد ، وذاك إخبار عن رؤية الجليس ) .
قال العظيم آبادي في شرح سنن أبي داود (2/ 91 ) : ( متلفعات : بالنصب على الحالية ، أي مستترات وجوههن وأبدانهن ) .
وقال المباركفوري قي " التحفة " (1/473) : ( قال الجزري في النهاية : أي متلففات بأكسيتهن ، واللفاع : ثوب يجلل الجسد كلّه ، كساء كان أو غيره ، وتلفع بالثوب إذا اشتمل به ، انتهى ) .
وظن الباجي أن في ذلك دليل على أن المرأة كانت تسفر عن وجهها !! ، وإنما حصل الاشتباه من أجل الغلس ، وتعقبه الحافظ في " الفتح " (2/67 ) وقال : (وهذا فيه ما فيه ) .
قلت : والتعليل مقيد بالغلس للاشتباه وانعدام الرؤية الواضحة عنهن من أجله ، فتغيب عن الناظر هيئاتهن ، لأن المرأة تعرف بهئيتها وإن كانت منتقبة في الغالب ، كما حصل في قصة سودة مع عمر بن الخطاب رضي الله عنهم .
والدليل الثاني : قول عائشة رضي الله عنها في حجها مع النبي : ( كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها على وجهها من رأسها فإذا جاوزونا كشفناه ) .
رواه أحمد(6/30) وأبو داود (5/286) وابن ماجه (2/979) وابن خزيمة (4/203) والدارقطني (2/295) والبيهقي (5/48) ، كلهم من حديث زياد بن أبي زياد عن مجاهد عن عائشة به ، وإسناده حسن بشواهده ، وهو ما رواه سعيد بن منصور في سننه نقلاً من " فتح الباري " (3/474) وهو في مسائل أبي داود للإمام أحمد (صحيفة :110 ) من حديث هشيم قال حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة رضي الله عنه به ، وهو إسناد صحيح .
وترجم له أبو داود في " السنن " (5/286) بقوله : ( باب : في المحرمة تغطي وجهها ) .
وترجم ابن ماجه في " السنن " (2/979) بقوله : ( باب : المحرمة تسدل الثوب على وجهها ) .
ووجه الدلالة منه : صريح على أن الأصل في المرأة أنها تغطي الوجه عن الأجانب ، حتى وإن كانت محرمة بالحج وهي مأمورة بالكشف حينذاك ، فكيف بغير الحج وهي مأمورة بالستر والتغطية !.
وقد حمل بعضهم هذا الصنيع من نساء المؤمنين حين الإحرام على التخيير ، مستدلاً بما روى البيهقي في السنن (5/47) : عن عائشة رضي الله عنها بسند صحيح: ( المحرمة تلبس من الثياب ما شاءت إلاّ ثوبا مسّه ورس أو زعفران ولا تتبرقع ولا تلثم وتسدل الثوب على وجهها إن شاءت ) ، وأصله في البخاري تعليقاً (3/473) ، ولم يذكر : ( إن شاءت ) .
وهذا غير صريح في التخيير ، ويحمل المراد من ذلك على ما إذا كانت بغير مشاهدة الرجال ، جمعاً بصنيع النساء عامة مع النبي كما قالت : ( تسدل إحدانا ) و ( تسدل المرأة جلبابها ) و ( سدلنا الثوب على وجوهنا سدلاً ) ، وهكذا ما سيأتي من قول أمّ سلمة وأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم .
وبهذا يكون التخيير في الأصل هل هو السدل للمحرمة أم لا ، وليس في الحكم مطلقاً ، فمن شاءت تتخذه أصلاً في جميع حال إحرامها فلها ذلك مبالغة في الاحتجاب كما ثبت ذلك عن أسماء ، ومن شاءت اتخذت الأصل هو كشف الوجه لها في حال إحرامها حتى يمرّ بها الرجال ، هذا ما يلزم الأخذ به جمعاً بين ما نقل ، والله أعلم .
والدليل الثالث : عن أم سلمة رضي الله عنه قالت : ( كنا نكون مع النبي ونحن محرمات ، فيمرّ بنا الراكب فتسدل المرأة الثوب من فوق رأسها على وجهها ) .
رواه الدارقطني في " السنن " (2/295) من حديث بشر بن مطر عن سفيان بن عيينة عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أم سلمة به .
وبشر بن مطر بن ثابت الدقاق ، قال عنه ابن حبان في " الثقات " : يخطي ، وقال أبو حاتم : كان صدوقاً ، وقال الدارقطني : ثقة .
فيحتمل أن يكون هذا وهمٌ من بشر فجعله من حديث أم سلمة وهو من حديث عائشة ، ويحتمل أن للحديث وجه أخر ، والله أعلم
ووجه الدلالة منه كسابقه ، والمراد بالسدل في كل الإرخاء ، غير مشدود على الوجه كالنقاب واللثام ونحوه ، ولا ضير في مماسة بعض المسدول الوجه ، ولا يلزم المرأة أن تضع عصابة على الرأس أو ما يباعد به عن وجهها ، فإن هذا من البدع المحدثة .
قال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (3/143) : ( ولم تكن إحداهن ـ أي نساء الصحابة ـ تتخذ عوداً تجعله بين وجهها وبين الجلباب كما قاله بعض الفقهاء ، ولا يعرف هذا عن امرأة من نساء الصحابة ، ولا أمهات المؤمنين البتة لا عملاً ولا فتوى ، ومستحيل أن يكون هذا من شعائر الإحرام ولا يكون ظاهراً مشهوراً يعرفه الخاص والعام ) .
الدليل الرابع : عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال : (( لا تنتقب المحرمة ولا تلبس القفازين )) .
رواه الإمام أحمد(2/119) والبخاري (4/63) وأبو داود (5/271) والترمذي 03/572) والنسائي 5/133,136) .
قال الترمذي : حديث حسن صحيح .
قال ابن حجر في "الفتح" (4/64) : ( النقاب : الخمار الذي يشد على الأنف أو تحت المحاجر ) .
قال السندي في حاشيته على " سنن النسائي" (5/133) : ( النقاب : المعروف للنساء لا يبدو منه إلاّ العينان ) .
وقال العظيم الآبادي في "شرح سنن أبي داود" (5/271) : ( النقاب : لبس غطاء للوجه فيه نقبان على العينين تنظر منهما ) .
ووجه الدلالة منه : أن النقاب كان معروف من عادة نساء المؤمنين ، نهين عن لبسه حال الإحرام لأنه مفصّل على الوجه ، مع إقرار الشارع لها بالتجلبب بالجلباب كما تقدم .
قال شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله في "الفتاوى" (15/372) : ( وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن ، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن ) .
وهنا شبهة بثّها بعضهم وقال : كون المرأة منهية عن تغطية وجهها حال الإحرام لا يدل على أن الواجب عليها ستره في حال الإحلال ، كما أن الرجل منهي عن تغطية رأسه حال الإحرام ، ولا يدل ذلك عند كل أحد أنه منهي عن تغطيته في حال الإحلال ؟! .
والجواب يترك للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في "تهذيب السنن" (5/282- مع عون المعبود): ( وأما نهيه في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما : (( المرأة أن تنتقب ، وأن تلبس القفازين )) ، فهو دليل على أن وجه المرأة كبدن الرجل لا كرأسه ، فيحرم عليها فيه ما وضع وفصّل على قدر الوجه كالنقاب والبرقع ، ولا يحرم عليها سترة بالمقنعة والجلباب ونحوهما ، وهذا أصح القولين ، فإن النبي سوّى بين وجهها ويديها ، ومنعها من القفازين والنقاب ومعلوم أنه لا يحرم عليها ستر يديها ، وأنهما كبدن المحرم يحرم سترهما بالمفصَّل على قدرهما ، وهما القفازان ، فهكذا الوجه إنما يحرم ستره بالنقاب ونحوه ، وليس عن النبي حرف واحد في وجوب كشف المرأة وجهها عند الإحرام إلاّ النهي عن النقاب ، وهو كالنهي عن القفازين ، فنسبة النقاب إلى الوجه كنسبة القفازين إلى اليد سواء وهذا واضح بحمد الله . ) .
الدليل الخامس : قول أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت : ( كنا نغطي وجوهنا من الرجال وكنّا نمتشط قبل ذلك في الإحرام ) رواه ابن خزيمة (4/203) والحاكم (1/454) ، وصححه ابن القيم (1) .
وهو في " الموطأ " (1/223) عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت : ( كنّا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصديق ) .
الدليل السادس : قوله عندما خرج من معتكفة مع أم المؤمنين صفية رضي الله عنها ورآه رجلان فأسرعا في السير فقال : (( على رسلكما إنها صفية )) متفق عليه .
وجه الدلالة : أن الوجه لو لم يكن يغطى لما احتاجوا إلى التعريف بأنها صفية لأنها قطعاً سوف تكون معروفة عند الناظر .
فإن قيل : إنهما لم يروها لأجل الظلام لأن الحادثة وقعت ليلاً !! . نقول : فكيف رأوا النبي إذن !! ، فإن قيل : كانا بعيدين !! ، نقول : الوارد خلاف ذلك لأنهم تحدثوا مع النبي ، ومثله لا يكون إلاّ عن قرب ، والله أعلم .
فهذا دليل على أنها كانت محتجبة الوجه ، فلم يعرفها الصحابيان رضي الله عنهم ، والله أعلم .
الدليل السابع : ما ثبت في الصحيح من حديث دخول عمر بن الخطاب رضي الله عنه على النبي وعنده جماعة من نساء قريش ، وفيه : ( فبادرن الحجاب ) هيبة من عمر رضي الله عنه .
ومعنى هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أنهن أحكمن الاحتجاب ، بدليل قوله رضي الله عنه : ( يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله ) .
والوجه الآخر : أنهن كنّ يكشفن وجوههن أمام النبي خاصة ويكون ذلك من خصائصه ، وعلى كل حال ففيه دلالة واضحة على الحجاب وشرعيته .
قال الحافظ في " الفتح " (9/ 118 ) : ( والذي تحرر عندنا أنه كان لا يحرم عليه النظر إلى المؤمنات الأجنبيات بخلاف غيره ) .
الدليل الثامن: قالت عائشة رضي الله عنها : (( رأيت رسول الله يسترني بردائه ، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد )) متفق عليه .
ووجه الدلالة : كون النبي سترها بردائه لكي ترى الذين يلعبون بالحراب ، وجاء في رواية : (( فأقامني وراءه وخدي على خدّه )) وفي أخرى : (( فوضعت رأسي على منكبه )) وفي أخرى : (( أنظر بين إذنيه وعاتقه )) ، قال الحافظ في " الفتح " (2/15) : ( ومعانيها متقاربة ) .
قلت : ولو كان الوجه ليس بعورة لما احتاج أن يسترها النبي بردائه ، وتكون من وراءه .
الدليل التاسع :عن فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة ، وهو غائب ، فجاءت رسول الله فذكرت ذلك له ، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : (( تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك عنده )) رواه الإمام مالك في " الموطأ " (1/394) والشافعي في " الأم" (5/343) وأحمد (6/412) ومسلم (10/297) وغيرهم.
وفي رواية لمسلم ولأحمد بنحوها : (( فإنك إذا وضعت خمارك لم يرك )) ، وتقدم أن الخمار غطاء للوجه على الصحيح .
الدليل العاشر: وعن أبي حميد الساعدي عن النبي : (( إذا خطب أحدكم امرأة فلا جناح عليه أن ينظر منها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة وإن كانت لا تعلم )) رواه أحمد (5/424) .
وجه الدلالة : أنه لو كان النساء متبرجات كاشفات الوجوه لما احتجنا إلى هذه الرخصة النبوية لأنهن أصبحن معروفات عند الجميع !! ، فدلّ ذلك على أن المرأة في العهد النبوي كانت مأمورة بالحجاب الكامل ، ورخص للخاطب أن ينظر إلى ما استطاع منها بإذن أو بغير إذن .
الحادي عشر : قول عائشة رضي الله عنها في حديث قصة الإفك : ( وكان ـ أي صفوان ـ يراني قبل الحجاب فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني ، فخمرت وجهي عنه بجلبابي ) متفق عليه .
ووجه الدلالة منه واضح ، وفيه مزيد بيان من كون الجلباب والخمار يتفقان على الاستخدام لتغطية الوجه ، والجلباب أعمّ وأشمل ، كما قال ذلك ابن منظور في "اللسان " وغيره ، والخمار ما يغطي الرأس والوجه وينحدر على الصدر ليس أسفل منه ، ومنه النقاب والنصيف واللثام .
الثاني عشر: عن أم عطية رضي الله عنها قالت : (( أمرنا رسول الله أن نخرجهن في الفطر والأضحى : العواتق والحيّض وذوات الخدور ، فأمّا الحيض فيعتزلن الصلاة ، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين ، قلت : يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب ؟ ، قال : لتلبسها أختها من جلبابها )) .
رواه أحمد (5/84) والبخاري (1/504, 556) ومواطن أخر ، ومسلم (6/178) وأبو داود (3/487) والترمذي (3/91) والنسائي (3/180,181) وابن ماجه (1/414) .
ووجه الدلالة منه ظاهرة : وهي كون النبي لم يأذن للنساء بالخروج إلى صلاة العيد إلاّ بتغطية الوجه بالجلباب ، ولو أن تستعيره ، وسبق تفسير الجلباب ، وأنه الرداء الذي يغطي الوجه والجسم .
الثالث عشر:عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي قال : (( المرأة عورة )) .
رواه الترمذي (4/337) وابن خزيمة (3/93, 94) والبزار (5/427) والطبراني في " الكبير " (10/132) وابن عدي في " الكامل " (3/423) والدارقطني في " العلل " (5/314) .
قال الترمذي : حديث حسن صحيح غريب ، قال الهيثمي : ورجال الطبراني موثوقون ، قال المنذري : رجاله رجال الصحيح .
ووجه الدلالة منه صريحة للغاية : وهي كون النبي أطلق كون المرأة عورة ولم يستنثنِ منها شيئاً لا وجه ولا غيره .
وفي رواية حرب عن الإمام أحمد قال : قيل للإمام أحمد : ( الرجل يكون في سوق يبيع ويشري ، فتأتيه المرأة تشتري ، فيرى كفّها ونحو ذلك ؟ ، فكره ذلك ، وقال : كل شي من المرأة عورة ، قيل : فالوجه ؟ ، قال : إذا كانت شابة تشتهى فإنّي أكره ذلك ، وإن كانت عجوزاً رجوت ) .
قلت : وقول الإمام أحمد ( أكره ذلك ) للتحريم ، كما وضح ذلك الإمام ابن القيم في " إعلام الموقعين " ، واشتهر عن الإمام أحمد قوله : ( كل شي من المرأة عورة حتى ظفرها ) (1).
فائدة : لما كان نعيم أهل الجنة أتم نعيم ، وحلتهم أكمل حلّه ، فإن نساء أهل الجنة جعل الله من عادتهم الحجاب ! ، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي قال: ( لروحة في سبيل الله أو غدوة خير من الدنيا وما فيها ولقاب قوس أحدكم من الجنة أو موضع قيد يعني سوطه خير من الدنيا وما فيها ، ولو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحا ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها ) .
وفي رواية عند الإمام أحمد في " المسند " : ( قلت يا أبا هريرة : وما النصيف ؟ ، قال : الخمار ) .
قال الحافظ : ( وَقَوْله فِيهِ " وَلِنَصِيفِهَا " بِفَتْحِ النُّون وَكَسْر الصَّاد الْمُهْمَلَة بَعْدهَا تَحْتَانِيَّة سَاكِنَة ثُمَّ فَاءَ هُوَ الْخِمَار بِكَسْرِ الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْمِيم ) .
وقال : ( وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : النَّصِيف الْخِمَار , وَيُقَال أَيْضًا لِلْخَادِمِ . قُلْت : وَالْمُرَاد هُنَا الْأَوَّل جَزْمًا . وَقَدْ وَقَعَ فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيِّ " وَلَتَاجُهَا عَلَى رَأْسهَا " وَحَكَى أَبُو عُبَيْد الْهَرَوِيُّ أَنَّ النَّصِيف الْمِعْجَرُ بِكَسْرِ الْمِيم وَسُكُون الْمُهْمَلَة وَفَتْح الْجِيم وَهُوَ مَا تَلْوِيه الْمَرْأَة عَلَى رَأْسهَا , وَقَالَ الْأَزْهَرِيّ : هُوَ كَالْعِصَابَةِ تَلُفُّهَا الْمَرْأَة عَلَى اِسْتِدَارَة رَأْسهَا , وَاعْتَجَرَ الرَّجُل بِعِمَامَتِهِ لَفَّهَا عَلَى رَأْسه وَرَدَّ طَرَفَهَا عَلَى وَجْهه وَشَيْئًا مِنْهَا تَحْت ذَقْنِهِ , وَقِيلَ الْمِعْجَرُ ثَوْبٌ تَلْبَسُهُ الْمَرْأَةُ أَصْغَر مِنْ الرِّدَاء , وَوَقَعَ فِي حَدِيث اِبْن عَبَّاس عِنْد اِبْن أَبِي الدُّنْيَا " وَلَوْ أَخْرَجَتْ نَصِيفَهَا لَكَانَتْ الشَّمْسُ عِنْد حُسْنِهَا مِثْل الْفَتِيلَة مِنْ الشَّمْس لَا ضَوْء لَهَا , وَلَوْ أَطْلَعَتْ وَجْههَا لَأَضَاءَ حُسْنهَا مَا بَيْن السَّمَاء وَالْأَرْض , وَلَوْ أَخْرَجَتْ كَفّهَا لَافْتُتِنَ الْخَلَائِق بِحُسْنِهَا ) .
فالنصيف والخمار والمعجر كلها تقضي بستر الوجه ، وهذا فالجنة ، وأخلاق أهل الجنة هي أخلاق أهل الإيمان في الدنيا .
هذه بعض النصوص الصحيحة الصريحة من السنة النبوية المطهرة في وجوب احتجاب المرأة وأنه عورة كلها ، وبما في ذلك الوجه والكفين ، وقد ذكر شيخنا العلامة حمود التويجري رحمه الله ما هو أكثر من ذلك فلتراجع ففي كتابه دعامة للحق وأهله .
ولا عذر لمن يرقب الله واليوم الآخر أن يعرض عن هذه النصوص الصريحة متعلقاً بقول فلان وفلان !! ، وليذكر قول الله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النور:63) .
وليذكر دعاة الضلال والمتسرعين في الأحكام أنهم موقوفون أمام الله ومحاسبون على ما قالوا ، عندما يقال لهم : { آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ } (يونس:59 ) ، فكم حصل على الإسلام من بلية من جرّاء كشف وجه المرأة وتبرجها أمام الأجانب ، حتى صارت منطلقاً لدعاة التبرج والسفور .
وما يحصل اليوم في العالم العربي والإسلامي أظهر دليل ، فمن الذي ينتصب لتحمل إثم كل هؤلاء المتبرجات حين أباح للمرأة أن تكشف وجهها لغير المحارم !! ، والله تعالى يقول : { لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ } (النحل:25 ) .
وقد ثبت عن النبي أنه قال : (( ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه ، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً )) .
وبهذه النصوص تكون العدّة للمسلمين الذابين عن حياض الدين ، بنصوص الوحيين من القران والسنة النبوية المباركة ، والله المستعان وعليه التكلان .
فصل
في كون وجه المرأة عورة ولا عبرة بخلاف من خالف
إن مما لاشك فيه أن الشريعة في مسائلها الفرعية مسائل عدّة لا تعد ولا تحصى اختلف فيها أهل العلم لأسباب عدّة ذكرها العلماء من حيث : دلالة النص وثبوته وحجيته ، فقد يدل الدليل ولا يثبت ، وقد يدل الدليل ويثبت ولكن لا يحتج به لنسخ أو معارض آخر أقوى ، وقد يثبت ويكون حجة ولكن الدلالة محل خلاف ، وقد يدل ويكون حجة ولكنه غير صحيح ، كل هذه الموارد هي من دواعي حصول الخلاف بين العلماء في كثير من المسائل العلمية والعملية .
والخلاف بين العلماء في مسائل الدين الأصلية والفرعية ينقسم إلى قسمين :
1- خلاف سائغ النظر فيه والاجتهاد .
2- خلاف لا يسوغ النظر فيه ولا الاجتهاد .
ومثل الأول كمثل بعض المسائل الفرعية من مسائل الفقه والشريعة أو بعض مسائل فروع أصول الدين(1) ، مما قد يرد فيه بعض أسباب اختلاف النظر بين العلماء السابقة الذكر .
وفي مثل هذا الخلاف العبرة بالقول الذي يظفر بالدليل الشرعي من القران والسنة ومقاصد الشريعة ، وما عداه من الأقوال مردودة على أصحابها ، مع اعتذارنا لهم بمسوّغ الاجتهاد ، وكذا من تابعهم على اجتهادهم حاله كحالهم ، ولا أقول قلّدهم ، وعامة هذا النوع من المسائل الخلاف فيه لا ينقطع على مرّ العصور، وإن اندثر في عصر انتشر في آخر ، وهذا الخلاف المخالف فيه معذور ، وهو بين الأجر والأجرين إن شاء الله ، ويقع الإنكار على القول لا على القائل ، ويشمل الإنكار المقلد لتقليده بغير دليل لا المتبع ، وعلى هذا يتنزل قول بعض العلماء : ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد )(1).
أمّا القسم الثاني : فمثل مسائل أصول التوحيد والعقيدة لا فروعها ، فلا يجوز الاجتهاد فيها ، وإن اجتهد وأخطأ يعامل بما يعامل به أهل البدع والأهواء ، لاعتقادنا أن عامة أهل البدع لم يضلوا بمجرد الهوى بل منهم من ضل بدافع الاجتهاد المبني على مقدمات خاطئة ، وهذا متقرر عند من عرف مقالاتهم ومنشئها، فالجهمية تذرعوا بالتنزيه ، والمعتزلة والخوارج بالعدل ، ونحو ذلك .
أيضاً من هذا الخلاف الذي لا يسوغ فيه النظر ولا الاجتهاد : الاجتهاد في المسائل النصّية ، وإن كانت فرعية !! ، وهو ما يسميه بعض أهل العلم بـ ( الاجتهاد في مقابلة النص ) ، وهذا مردود لا يقبل ولا عبرة بقول من خالفه ، ومن ذلك ردّ العلماء مذهب أهل الرأي وذموهم لما وقعوا فيه من مخالفة للنصوص الظاهرة ، ولم يعتبروا خلافهم مسوّغاً لمعذرة المخالف .
وعليه لا يعذر المخالف في ذلك عند العلماء وأمره إلى الله ، كما أن الإنكار عليه واجب ، ولا يجوز إتباع المجتهد فيه ولا تقليده ، وينكر عليه ، وعلى هذا ينزّل قول العلماء ( من تتبع رخص العلماء تزندق ) ، وإلاّ فهناك من قال : بإباحة وطء النساء في أدبارهن !! ، وإباحة شرب الخمر المختلف فيه!! ، وإباحة ربا الفضل !، ودانوا بحياة الخضر !، والخروج على أئمة الجور ! ، وتحليل الاستمناء باليد !!، وإجازة المتعة ! ، وسماع المعازف ! ، وغير ذلك من المسائل التي استقرت السنة على خلافها .
وقد أحسن الناظم في قوله :
وليس كل خلافٍ جاء معتبر إلاّ خلاف له حظ من النظرِ
ومن هذه المسائل : إباحة كشف وجه المرأة عند الرجال !! ، وعامة مقالات العلماء تنص على وجوبه والحث عليه ، وقد أخطأ من زعم أن كشفه هو مذهب جمهور العلماء !! (1) ، ومن راجع نصوص القران والسنة وكلام العلماء المتقدمين وجد مصداقية ما قُرِّر هنا ، وأن الوجه عورة عند جماهيرهم ، ولولا ضيق المقام لنقلت من مقالاتهم ما يكشف الشبهة عن المغترين ، ومن ذلك :
قول الغزالي في " إحياء علوم الدين " : ( لم يزل الرجال على ممر الزمان مكشوفي الوجوه ، والنساء يخرجن منتقبات ) من " فتح الباري " (9/248) .
وقال الحافظ في " فتح الباري " ( 9/235) : ( ولم تزل عادة النساء قديماً وحديثاً يسترن وجوههن عن الأجانب ) .
وقال في موضع آخر (9/248) : ( استمرار العمل على جواز خروج النساء إلى المساجد والأسواق والأسفار منتقباتٍ لئلا يراهن الرجال ) ثم ذكر كلام الغزالي السابق .
وقال شمس الأئمة شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله تعالى في " الفتاوى " (22/114) : ( والوجه واليدان والقدمان ليس لها أن تبدي ذلك للأجانب على أصح القولين ، بخلاف ما كان قبل النسخ بل لا تبدي إلاّ الثياب ) .
وقال أيضاً(24/382) : ( وكشف النساء وجوههن بحيث يراهن الأجانب غير جائز وعلى وليّ الأمر : الأمر بالمعروف والنهي عن هذا المنكر وغيره ، ومن لم يرتدع فإنه يعاقب على ذلك بما يزجره ) .
وقال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/223) في معرض ردّه على من أوجب كشف وجه المرأة في حال إحرامها مطلقاً : ( فكيف يحرم ستر الوجه في حق المرأة مع أمر الله لها أن تدني عليها من جلبابها ، فلا تعرف ويفتتن بها ) .
ووجه الشافعية عدم جواز النظر إلى وجه المرأة مطلقاً بـ ( اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات الوجوه ) ، كما نص على ذلك النووي في " روضة الطالبين " (7/21) وغيره .
ونقل صاحب كتاب " مكانك تحمدي " ( صحيفة : 40 ) عن شيخ الإسلام بن تيمية رحمه الله أنه ذكر : ( اتفاق المسلمين على منع خروج النساء سافرات الوجوه ، لأن النظر مظنة الفتنة ) .
فهذه بعض النقول عن الأئمة الأجلاء ممن نص على عورة وجه المرأة وغيره كثير عن المتقدمين والمتأخرين يثقل هاهنا حصرهم ، ذكر جملة منهم من أشرنا إلى مؤلفاتهم في أثناء هذا الكتاب وحواشيه ، وما نقل عن غيرهم من أهل العلم خلاف ذلك فهو مما تأولوه باجتهاد مرجوح ، والمرجعية عند النزاع هو كتاب الله وسنة رسوله كما قال تعالى : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (النساء:59) ، ففيهما الحكم بين قولنا وقول من خالف ، ويستحيل أن يحيلنا ربنا عند النزاع على غير مزيل له وهما الكتاب والسنة ، فمن نظر فيهما وتأمل ، علم أن القول بأن وجه المرأة عورة هو أصح القولين ، وأعدل المذهبين ، وبه عفة المرأة وحشمتها ، وصيانة لها ولأمتها .
فهذه جموع عدتنا من القران والسنة وأقوال العلماء صُفّت للجاهلين والمبطلين صفا صفا ، ومائة منها صابرة تغلب من شبهاتهم ألفا ، انتقيتها ممن بحث من أهل العلم وأفاد ، وحليتها بمزيد تعليق به ينتبه العباد ، ولله لحمد والمنّة .
فصل
{ وشهد شاهد من أهلها }
إن المقارنة بين المرأة الغربية المتهتكة ، دمية الأطفال !! ، ولعبة المحتال !! ، ولذة البطّال !! ، وبين المرأة المسلمة العفيفة الشريفة ، النزيهة الظريفة ، يجد البون الشاسع بين هذه وتلك ، فالمسلمة في عالي مراتب العفة والكرامة ، وهي في حضيض الذلة والامتهان والسآءمة ، ومهما قالوا بأنها صنعت وصنعت ، فكذلك نساء المسلمين صنعن وصنعن ، بمزيد فوز بحفظ أبصارهن وفروجهن ، بينما الأخرى دفعت ثمن تبرجها وسفورها ومخالطتها للرجال : عفتها وكرامتها وحقوقها الحقّة !! .
والكون لا يصلح إلا بشرع الله ، قال تعالى : {وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا) (الأعراف:56) ، فليس من الضروري في رقيّ الأمم ، وتطور الحضارات ، أن تكشف المرأة عن وجهها ، وأن تخالط الرجال ، وأن تدع القرار في البيوت .
ولعل أفضل ما يشاد بذكره من تلك الأمم المعاصرة هذه الدولة العربية السعودية ، فليست هي أقدم الأمم ، ولكنها صارعت كبار الدول الآن على القمم !! ، فمنذ تأسيسها وهي حافظة للمرأة حقوقها ، ولم تلزمها بترك الحجاب ولا مخالطة الرجال ، واستطاعت المرأة أن تسهم في بناء هذا الصرح العظيم مع حفاظها على كرامتها ، فلم تكن الحاجة ملحّة إلى ما يرومون .
حتى إن العالم الغربي لم يغفل هذا الرقي الذي نحن نعيش فيه ، وعقل أن ما هم عليه من حضارة إنما هي من خضرة الأوحال ، ومزيف الأحوال ، فمهما بنوا جانباً من جوانب الحياة ، تهدّمت عندهم جوانب من جوانب الحياء والفكر والسلوك ، وكان ابتداء هلاكه بسبب تلك المرأة الضعيفة !!(1) ، حتى أصبحت شبيهة بالدمية يستمتع بها تحمل وتهمل !! ، بل ربّما تدنى الأمر بها إلى أن تصبح شبيهة بالمراحيض تلقى فيها القاذورات ، بقضاء الوطر والملذات !! ، ثم تلقى في زبالة البغايا والعاهرات ، حتى بين تلك الأوساط !! ، فتصبح النهاية المأساوية ، هم وغمّ ، ذل وتشريد ، إجهاض وانتحار.
ومن ثمّ سئم العالم الغربي من أوحال التدني التي تتخبط فيه النساء واعترفوا أن كرامة المرأة وتحريرها هو ( الإسلام !! ) الذي حفظ للمرأة جميع حقوقها ، قالت الكاتبة الإنجليزية الليدي كوك : ( إن الاختلاط يألفه الرجال ولهذا طمعت المرأة بما يخالف فطرتها وعلى قدر كثرة الاختلاط تكون كثرة أولاد الزنى ، وهاهنا البلاء العظيم على المرأة ـ إلى أن قالت ـ علموهن الابتعاد عن الرجال ، أخبروهن بعاقبة الكيد الكامن لهن بالمرصاد ) .
وقال شوينهور الألماني : ( قل هو الخلل العظيم في ترتيب أحوالنا الذي دعا المرأة لمشاركة الرجل في علو مجده وباذخ رفعته ، وسهل عليها التعالي في مطامعها الدنبئة حتى أفسدت المدنية الحديثة بقوى سلطانها ودنيء آرائها ) .
وقال اللورد بيرون : ( لو تفكرت أيها المطالع فيما كانت عليه المرأة في عهد قدماء اليونان لوجدتها حالة مصطنعة مخالفة للطبيعة ، ولرأيت معي وجوب اشتغال المرأة بالأعمال المنزلية مع تحسين غذائها وملبسها فيه ، وضرورة حجمها عن الاختلاط بالغير) .
وقال سامويل سمايلس الأنجليزي : ( إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل مهما نشأ من الثورة للبلاد فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية ، لأنه هاجم هيكل المنزل ، وقوض أركان الأسرة ومزق الروابط الاجتماعية ، فإنه يسلب الزوجة من زوجها ، والأولاد من أقاربهم ، صار بنوع خاص لا نتيجة له إلاّ تسفيل أخلاق المرأة ، إذ وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها ، والاقتصاد في وسائل معيشتها مع القيام بالاحتياجات البيتية ، لكن المعامل تسلخها من كل هذه الواجبات بحيث أصبحت المنازل غير منازل !! ، وأضحت الأولاد تشبّ على عدم التربية ، وتلقى في زوايا الإهمال ، وطفئت المحبة الزوجية ، وخرجت المرأة عن كونها الزوجة الظريفة ، والقرينة المحبة للرجل ، وصارت زميلته في العمل والمشاق ، وباتت معرض للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة ) .
وقالت الدكتورة إيدايلين : ( إن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع هو : أن الزوجة تركت بيتها لتضاعف دخل الأسرة ، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق ـ ثم قالت ـ إن التجارب أثبتت أن عودة المرأة إلى الحريم هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه ) .
وقال أحد أعضاء الكونجرس الأميريكي : ( إن المرأة تستطيع أن تخدم الدولة حقاً إذا بقيت في البيت الذي هو كيان الأسرة ) .
وقال عضو آخر : ( إن الله عندما منح المرأة ميزة الأولاد لم يطلب منها أن تتكرم لتعمل في الخارج بل جعل مهمتها البقاء في المنزل لرعاية هؤلاء الأطفال ) .
وقال شو ينهمور الألماني أيضاً : ( اتركوا للمرأة حريتها المطلقة كاملة بدون رقيب ثم قابلوني بعد عام لتروا النتيجة ولا تنسوا أنكم سترثون معي الفضيلة والعفة والأدب ، وإذا متّ فقولوا : أخطأ أو أصاب كبد الحقيقة !!! )(1).
وقال الدكتور ( ألكيس كاريل ) حائز جائزة نوبل الطبية ، في " مجلة المختار من ردريز دايجست " في ( العدد 36 من الطبعة العربية ) بحثاً بعنوان ( لبن الأم طبيعي للطفل ) : ( فالأم في هذا العصر ليس لها من تعليمها ولا عاداتها ما يهيئها للأمومة ومقتضياتها .. ويرى كثير من الأمهات أن عملهن ومستقبلهن وشهواتهن الاجتماعية أهم من رعاية أطفالهن ، ولا يدركن أن المرأة إنما خلقت للأمومة .. والأم في العصر الحديث فريسة في مخالب البيئة الاقتصادية والبيئة العقلية ، فقد ضرب المجتمع صفحاً عن قوانين علم الحياة ، وبخاصة قانون النسل ، فالبنات قد حرمن معرفة العمل الذي خلقن له وجهلن قدره في حياة البشر ، بل وصرن يتعلمن ما يتعلمه الصبيان ، وصرن بمنزلة الذكور !! ، لهن مالهم في الحياة ، وعليهن ما عليهم ، فصار على المرأة أن تعول نفسها كما يفعل الرجل ، فكيف يتأتى لعاملة في مصنع أو مكتب ، أو لمدرسة أو محامية أو طبيبة أو تاجرة أو امرأة باحثة عن ملاذ الحياة ؛ أن ترضع طفلها ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر هي الحد الأدنى للرضاعة !! ) (1) .
أقول : هذه العبارات والاعترافات ، هي من كلام عقلاء تلك الأمم ممن عرف نتائج التبرج والسفور ، فكيف بمن هم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، ويرون أن خروج المرأة ( انفتاحية !! ) ، وأن مشاركتها للرجل في مجال عمله ( مساواة وإنسانية!! ) ، وأن البيت ( سجن واستذلال ) ، الحجاب ( قيود وأغلال !! ) ،، وتقول إحداهن بلسان عربي فصيح : ( متى يحين الوقت ونزيح هذه الأغلال السوداء من على وجوهنا !! ) ، وتسميه أخرى بـ : ( السياج الحديدي الأسود !! ) .
كل هذه الأصوات تتفجر صباح مساء بيننا ، ولم يكن لهم العبرة في العالم من حولهم ولا حول ولا قوة إلاّ بالله .
فصل
في الغارات السالفات على المسلمات
إن الناظر إلى موجز أطوار حياة المرأة على مرّ العصور يجد أن المرأة مرّت بثلاثة أطوار :
1- المرأة في الجاهلية الأولى : ( بعض شيمة بلا دين ) .
2- والمرأة في الإسلام قديماً وحاضراً : ( دين وشيمة وعفاف ) .
3- والمرأة المعاصرة وهي الجاهلية الأخرى : ( لا دين ولا شيمة ) .
ولم تعاني المرأة من مسخ أخلاقي ، وتطهير عرقي للشيمة ، كما عانته المرأة في هذه الأزمان ، وخاصة المسلمات منهن (1) ، فشنّ عليهم أعداء الفضيلة شتى صنوف الغارات .
وأخطر هذه الغارات هي الغارات من داخل الحصون ، وإن شئت سمّها بـ (الانقلاب الفكري ) ، خاصة إذا لبست لباس الدين والفتوى !! ، يسّوق لها ذلك بعض أئمة الضلال ممن ينتسب للإسلام ، وهم أخوف ما خافه علينا نبينا محمد ، كما روى الإمام أحمد والترمذي من حديث ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله : ( إنما أخاف عليكم الأئمة المضلين ) .
فكانت البداية الفعليه في العالم الإسلامي على يد رفاعة الطهطاوي [1216هـ - 1290هـ ] ، الذي ابتعث واعظاً وإماماً لبعثة مصرية إلى فرنسا ، فتشرّب هناك الثقافة الإباحة ، وعاد إلى مصر يحمل فيروسات تلك الأوبئة الفتاكة ، وفجّر في مصر الدعوة إلى ما يسميه بـ ( تحرير المرأة ) ، بثلاثة مؤلفات وهي : ( "تلخيص الإبريز في تلخيص باريز" – و " مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية " – و "المرشد الأمين للبنات والبنين " ) .
ودعا في هذه المؤلفات إلى أن الاختلاط لا يمكن أن يكون سبباً في الفساد ، وحث على إقامة المسارح ، وجوّز مراقصة الرجال للنساء فيقول في مراقصة النساء في فرنسا : ( ويتعلق في فرنسا كل الناس .. فلذالك كان دائماً غير خارج عن قوانين الحياء ، بخلاف الرقص في أرض مصر ، فإنه من خصوصيات النساء ، لأنه لتهييج الشهوات ، وأمّا في باريس فإنه نطٌ مخصوص لايشم منه رائحة العهر أبداً !!!! ، وكل إنسان يعزم امرأة يرقص معها ، فإذا فرغ الرقص عزمها آخر للرقصة الثانية ، وهكذا وسواء كان يعرفها أو لا !!! )(1) .
وهكذا جاءت نازلي فاضل ، وفتحت نادياً لاجتماع من هم على شاكلتها ، وكانت ممن اشتهر بمخالطة الرجال ، وتجتمع معهم ، وكان من روّاد صالونها الذي افتتحته آنذاك (محمد عبده-وسعد زغلول- واللقّاني- ومحمد بيرم - وقاسم أمين )(2).
من ثم ألّف مرقس فهمي [ 1287هـ - 1374هـ ] كتاباً بعنوان : " المرأة في المشرق " وهو مصري نصراني عميل للنفوذ البريطاني مما سهل له الطعن في الإسلام ، وفي هذا الكتاب كانت الدعوة الصريحة الأولى في تاريخ مصر إلى : ( القضاء على الحجاب الإسلامي - وَ إباحة الاختلاط للمرأة المسلمة بالأجانب عنها - وَ تقييد الطلاق ووجوب وقوعه أمام القاضي - وَ منع الزواج بأكثر من واحدة - وَ إباحة الزواج بين المسلمات والأقباط ) .
ثم كتب قاسم